الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }

فيه ست مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدّم إذ لو نفر الكل لضاع مَن وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد ولْيُقِم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلّموه من أحكام الشرع، وما تجدّد نزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالىٰ: { إِلاَّ تَنفِرُواْ } وللآية التي قبلها على قول مجاهد وٱبن زيد. الثانية ـ هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم لأن المعنىٰ: وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مقيم لا يَنْفر فيتركوه وحده. { فَلَوْلاَ نَفَرَ } بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } وتبقىٰ بقيّتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضاً قوله تعالىٰ:فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] [الأنبياء: 7]. فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن. الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { فَلَوْلاَ نَفَرَ } قال الأخفش: أي فهلاّ نفر. { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنىٰ نفس طائفة. وقد تقدّم أن المراد بقوله تعالىٰ:إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } [التوبة: 66] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعةٌ لوجهين أحدهما عقلاً، والآخر لغة. أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } فجاء بضمير الجماعة. قال ٱبن العربيّ: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة هاهنا واحد، ويَعْتضِدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر. قلت: أنصّ ما يُستدلّ به على أن الواحد يقال له طائفة قولهُ تعالىٰ:وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [الحجرات: 9] يعني نفْسين. دليله قوله تعالىٰ:فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في «ٱقتتلوا» وإن كان ضمير جماعة فأقلّ الجماعة ٱثنان في أحد القولين للعلماء. الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { لِّيَتَفَقَّهُواْ } الضمير في «لِيتَفقَّهُوا، وَلِيُنْذِرُوا» للمقيمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة وٱختاره الطبريّ. ومعنىٰ { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } أي يتبصّرُوا ويتيقّنوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين ونُصرة الدين.

السابقالتالي
2 3