الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولى ـ روى النَّسائيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت: { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ }. والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في ٱستغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عِدَة. وقال ٱبن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليلَ أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر علم أنه عدوّ الله، فترك الدعاء له فالكناية في قوله: «إياه» ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه. وقيل: الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، فلما مات مشركاً تبرأ منه. ودلّ على هذا الوعد قوله:سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [مريم: 47]. قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: تعلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعداً قبل أن يتبيّن الكفر منه، فلما تبيّن له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد، وقد شاهدت موته كافراً. الثانية ـ ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حُكم له به وربّك أعلم بباطن حاله بَيْدَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله، هل نفعت عمّك بشيء؟ قال: " نعم " وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب «التذكرة». الثالثة ـ قوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } اختلف العلماء في الأوّاه على خمسة عشر قولاً: الأوّل ـ أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء قاله ٱبن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني ـ أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ٱبن مسعود. والأول أصح إسناداً عن ٱبن مسعود قاله النحاس. الثالث ـ أنه الموقن قاله عطاء وعكرمة، ورواه أبو ظَبيان عن ٱبن عباس. الرابع ـ أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضاً. الخامس ـ أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة قاله الكلبيّ وسعيد بن المسيّب. السادس ـ أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر، وذُكر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يكثر ذكر الله ويسبح فقال: " إنه لأوّاه " السابع ـ أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس. قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها.

السابقالتالي
2