الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولى ـ روى مسلم عن سعيد بن المسيِّب عن أبيه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدَ الله بن أبي أُميّة بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عَمِّ، قل لا إلۤه إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إلۤه إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك» " فأنزل الله عز وجل: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56]. فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمّه فإنه استغفر له بعد موته على ما رُوي في غير الصحيح. وقال الحسين بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة. الثانية ـ هذه الآية تضمّنت قطع موالاة الكفار حيِّهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلبُ الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل: فقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُد حين كسروا رَبَاعِيتَه وشَجّوا وجهه: " اللهم ٱغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسولَه والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين. قيل له: إن ذلك القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمّن تقدّمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله قال: كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيّاً من الأنبياء ضربه قومُه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: " رب ٱغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وفي البخاريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبيّاً قبله شَجّه قومه فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال: " اللّهُمْ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم.

السابقالتالي
2