الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأُولى ـ قوله تعالى: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } يعني مسجد الضِّرار أي لا تقم فيه للصلاة. وقد يعبّر عن الصلاة بالقيام يقال: فلان يقوم الليل أي يصلّي ومنه الحديث الصحيح: " من قام رمضان إيماناً وٱحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه " أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:...، فذكره. وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمرّ بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يُتخذ كُناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقُمَامات. الثانية ـ قوله تعالى: { أَبَداً } «أبدا» ظرف زمان. وظرف الزمان على قسمين: ظرف مقدّر كاليوم، وظرف مُبْهم كالحين والوقت والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر. وتنشأ هنا مسألة أُصولية، وهي أن «أبدا» وإن كانت ظرفاً مبهماً لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال: لا تقم، لكفى في الانكفاف المطلق. فإذا قال: «أبداً» فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان. فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبراً عن واقع لم تعمّ، وقد فَهِم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا: لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبداً طَلُقت طلقة واحدة. الثالثة ـ قوله تعالى: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } أي بُنيت جُدُره ورُفعت قواعده. والأُسّ أصل البناء وكذلك الأساس. والأَسَس مقصور منه. وجمع الأُسّ إساس مثلُ عُسّ وعِساس. وجمع الأساس أُسُس مثل قَذال وقُذُل. وجمع الأَسَس آساس مثل سبب وأسباب. وقد أسّست البناء تأسيساً. وقولهم: كان ذلك على أُسِّ الدهر، وأَسّ الدهر، وإسّ الدهر ثلاث لغات أي على قِدم الدّهر ووجه الدهر. واللام في قوله { لَّمَسْجِدٌ } لام قسم. وقيل لام الابتداء كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلاً وهي مقتضية تأكيداً. «أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى» نعت لمسجد. { أَحَقُّ } خبر الابتداء الذي هو «لَمَسْجِدٌ» ومعنى التقوى هنا الخصال التي تُتّقَى بها العقوبة، وهي فَعلى من وَقيت، وقد تقدّم. الرابعة ـ وٱختلف العلماء في المسجد الذي أسّس على التقوى فقالت طائفة: هو مسجد قباء يروى عن ٱبن عباس والضحاك والحسن. وتعلقوا بقوله: { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } ، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أوّل يوم فإنه بُني قبل مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله ٱبن عمر وٱبن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ٱبن وهب وأشهب وٱبن القاسم. وروى الترمذِيّ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: قال " تَمارَى رجلان في المسجد الذي أُسِّس على التّقوى من أوّل يوم فقال رجل هو مسجد قُبَاء، وقال آخر هو مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو مسجدي هذا» "

السابقالتالي
2 3 4