الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

فيه مسألتان: الأولىٰ ـ قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يُكلّمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصّة التي خُصُّوا بها دوننا فنزلت: «أَلَمْ يَعْلَمُوا» فالضمير في «يعلموا» عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ٱبن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالىٰ: { هُوَ } تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالىٰ بهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: أن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبولُ رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبيّ ولا ملك. الثانية ـ قوله تعالى: { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } هذا نصّ صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثِيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبيّ صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن تُوُفّي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حيّ لا يموت. وهذا يبيّن أن قوله سبحانه وتعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقةً» ليس مقصوراً على النبيّ صلى الله عليه وسلم. روى الترمذِيّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فَيُربِيها لأحدكم كما يربِي أحدكم مُهْره حتى أن اللقمة لتصير مثلَ أُحُد وتصديق ذلك في كتاب الله وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربي الصدقات " قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم: " لا يتصدّق أحد بتمرة من كسبٍ طيّب إلا أخذها الله بيمينه ـ في رواية ـ فتربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " الحديث. وروي. " إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله والله يضاعف لمن يشاء " قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفاً عليه بقوله: " يٱبن آدم مَرِضت فلم تَعُدْني " الحديث. وقد تقدّم هذا المعنى في «البقرة». وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة كما قال الشاعر:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجْدٍ   تلقّاها عَرابة باليمينِ
أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يُرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنًى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى " تربو في كف الرحمن " عبارة عن كِفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف كأنه قال: فتربو كِفّة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وٱبن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أَمِرُّوها بلا كَيْف قاله الترمذِي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.