الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

فيه ثمان مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ٱختلف في هذه الصدقة المأمور بها فقيل: هي صدقة الفرض قاله جُويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء ولهذا قال مالك: إذا تصدّق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث متمسكاً بحديث أبي لُبابة. وعلى القول الأوّل فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال: ـ
أطعنا رسول الله ما كان بيننا   فيا عجباً ما بال مُلْك أبي بكر
وإن الذي سألوكُم فمنعتُم   لكالتمر أو أحْلَىٰ لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقيّة   كرامٌ على الضّراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة. ابن العربيّ: أما قولهم إن هذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } ونحوه. ومنها خطاب خُصَّ به ولم يشركه فيه غيره لفظاً ولا معنىٰ كقوله:وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79] وقوله: «خَالِصَةً لَكَ». ومنها خطاب خُصّ به لفظاً وشَرَكه جميع الأمة معنىً وفعلاً كقوله:أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] الآية. وقوله:فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [النحل: 98] وقوله:وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } [النساء: 102] فكل من دَلَكَتْ عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة. وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة. ومن هذا القبيل قوله تعالىٰ: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }. وعلى هذا المعنىٰ جاء قوله تعالىٰ:يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 1] ويٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [الطلاق: 1]. الثانية ـ قوله تعالىٰ: { مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ذهب بعض العرب وهم دوسٌ: إلى أن المال الثيابُ والمتاع والعُروض. ولا تسمِّي العين مالاً. وقد جاء هذا المعنىٰ في السُّنة الثابتة من رواية مالك عن ثور بن زيد الدِّيلي عن أبي الغيث سالم مولىٰ ابن مطيع عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر فلم نغنم ذهباً ولا وَرِقاً إلا الأموال الثياب والمتاع.

السابقالتالي
2 3 4 5