الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين، وقال ٱبن عباس: نزلت في عشرة تخلّفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً» ذكره المهدوي. وقال زيد بن ٱسلم: كانوا ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لُبابة الأنصاريّ خاصة في شأنه مع بني قُريظة وذلك أنهم كلّموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلَقه. يريد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلّه ذكره الطبريّ عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أَوْعَب من هذا. وقال أشهب عن مالك: نزلت «وآخرُون» في شأن أبي لبابة وأصحابه. وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي؟ فقال: " يجزيك من ذلك الثلث " وقد قال تعالىٰ: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ورواه ٱبن القاسم وٱبن وهب عن مالك. والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلّفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لُبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضىٰ عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رَغبوا عنّي وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين " فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أرسل إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم. فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلّفتْنا عنك، فتصدّق بها عنا وطهرنا وٱستغفر لنا. فقال: " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً " فأنزل الله تعالىٰ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية. قال ٱبن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها. فكان عملهم السيء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة. واختلفوا في الصالح فقال الطبريّ وغيره: الاعتراف والتوبة والندم. وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلاً ولا ولداً حتى ينزل الله عذرنا. وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزْوُهم فيما سلف من غزو النبيّ صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2