الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } * { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } * { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } * { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ }

قوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } أي ابن آدم { مِمَّ خُلِقَ }؟ وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يُمْلِي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و { مِمَّ خُلِقَ }؟ استفهام أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: { خُلِقَ } وهو جواب الاستفهام { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } أي من المنِيّ. والدّفْق: صب الماء، دفقت الماء أدفُقُه دفقاً: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق كما قالوا: سِرّ كاتِم: أي مكتوم لأنه من قولك: دُفِق الماء، على ما لم يُسَمَّ فاعله. ولا يقال: دَفَق الماءُ. ويقال: دفَقَ الله رُوحَه إذا دُعِي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: «من ماءٍ دافِقٍ» أي مصبوب في الرّحِم. الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل أي ذو فرس، ودِرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدّة قوّته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة لأن الإنسان مخلوق منهما، لَكِنْ جعلهما ماء واحداً لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: «دافِقٍ» لَزِج. { يَخْرُجُ } أي هذا الماء { مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ } أي الظهر. وفيه لغات أربع: صُلْب، وصُلُب ـ وقرىء بهما ـ وصَلَب بفتح اللام، وصالب على وزن قالَب ومنه قول العباس:
تُـنْقَـلُ مـن صـالَـبٍ إلـى رَحِـمٍ   
{ وَٱلتَّرَآئِبِ }: أي الصدر، الواحدة: تَرِيبة وهي موضع القِلادة من الصدر. قال:
مهْفهفة بيضاء غيرُ مُفاضةٍ   ترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
والصُّلْب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها وقال عكرمة. ورُوي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجِيد. مجاهد: هو ما بين المنكِبين والصدر. وعنه: الصِّدَر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المَدَنيّ: الترائب عُصارة القلب ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر. وقال دُريد بن الصمة:
فإن تدبِروا نأخذكُمُ في ظهورِكُمْ   وإن تقبِلوا نأخذكم في الترائب
وقال آخر:
وبدت كأن ترائبا من نحرها   جمرُ الغَضَى في ساعدٍ تتوقد
وقال آخر:
والزعفرانُ على ترائِبِها   شِرق به اللبات والنحرُ
وعن عكرمة: الترائب: الصدر ثم أنشد:
نِـظـامُ دُرٌ عـلـى تـرائـبـهـا   
وقال ذو الرمّة:
ضَـرَجْـن الـبـرود عـن تـرائـب حـرة   
أي شققن. ويروى «ضرحن» بالحاء أي ألقين. وفي الصحاح: والتريبة: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر ما بين الترقوة والثَّندُوة. قال الشاعر:
أشـرفَ ثَـديـاهـا علـى الـتَّـرِيـبِ   
وقال المثقِّب العَبْدِيّ:
ومِن ذَهَبِ يُسَنّ على تَرِيبٍ   كلون العاج ليسَ بذي غُضونِ

السابقالتالي
2