الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } * { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } * { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } * { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }

قوله تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } أي لعن. قال ٱبن عباس: كل شيء في القرآن «قُتل» فهو لُعِن. وهذا جواب القسم ـ في قول الفرّاء ـ واللام فيه مضمرة، كقوله:والشمس وضحاها - ثم قال - قد أفلح من زكاها } [الشمس: 1-9] أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماءِ ذات البُروج قاله أبو حاتم السجستانيّ. ٱبن الأنباريّ: وهذا غَلَط لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسمإِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] وهذا قبيح لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل:إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } [البروج: 10]. وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنَّ. وهذا ٱختيار ٱبن الأنباريّ. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخدّ لمجاري الدموع، والمخدّة لأن الحدّ يوضع عليها. ويقال: تخدّد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح، قال طَرَفة:
ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءها   عليه نَقيُّ اللونِ لم يَتَخدّدِ
{ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } «النار» بدل من «الأخدود» بدل الاشتمال. و «الوقود» بفتح الواو قراءة العامة، وهو الحَطَب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم بضم الواو على المصدر أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوُقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السَّمال العدويّ وٱبن السميقع «النار ذات» بالرفع فيهما أي أحرقتهم النار ذات الوقود. { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقد ٱختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فٱبعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه إذا سَلَك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فٱقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى فإن ٱبتليت فلا تدلَّ عليّ. وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفِي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيِّ. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربُّك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلَّ على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟! قال: إنا لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب، فقيل له: ٱرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاه. ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له: ٱرجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه، فشقه به حتى وقع شِقاه. ثم جيء بالغلام فقبَل له: ٱرجع عن دينك، فأبي فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه فقال: ٱذهبوا به إِلى جبل كذا وكذا، فٱصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فٱطرحوه فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال: اللهم ٱكفِنِيهم بما شِئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملِك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانِيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: ٱذهبوا به فٱحملوه في قُرْقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فٱقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم ٱكفنيهم بما شئت فٱنكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحدِ، وتصلبني على جِذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بٱسم الله رب الغلام، ثم ٱرمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيد واحد، وصلبه على جِذْع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بٱسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللَّهِ نزل بك حَذرك، قد آمن الناس فأمر بالأخدودٍ في أفواه السِّكك، فخدّت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ـ أو قيل له ٱقتحم ـ ففعلوا حتى جاءت ٱمرأة ومعها صبيّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: «يا أمَّة ٱصبِرِي فإنِك على الحق» "

السابقالتالي
2 3 4 5