الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } * { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } * { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } * { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } * { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } * { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } أي أهل الصدق والطاعة. { لَفِي نَعِيمٍ } أي نَعْمة، والنَّعمة بالفتح: التنعيم يقال: نَعَّمه الله وناعمه فتنعم، وامرأة منعَّمة ومناعَمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } وهي الأسرة في الحجِال { يَنظُرُونَ } أي إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات قاله عكرمة وٱبن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظُرون إلى أهل النار. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ينظرون إلى أعدائهم في النار " ذكره المَهْدَوِيّ. وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله. قوله تعالى: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أي بهجته وغضارته ونوره يقال: نضر النبات: إذا ٱزهر ونوّر. وقراءة العامة «تعرِفُ» بفتح التاء وكسر الراء «نَضْرةَ» نصباً أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وٱبن أبي إسحاق: «تُعْرَف» بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول «نضرة» رفعاً. { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } أي من شراب لا غِش فيه. قاله الأخفش والزجّاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أصفى الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:
يَسْقون مَنْ وَرَدَ البريصَ علَيْهِمُ   بَرَدَى يُصَفَّق بالرِحيقِ السلسلِ
وقال آخر:
أمْ لا سبِيلَ إِلى الشباب وذكره   أَشْهى إِلىّ مِن الرحيقِ السَّلْسَلِ
{ مَّخْتُومٍ } { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال مجاهد: يختم به آخر جُرْعة. وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس، ٱنختم ذلك بخاتم المسْك. وكان ٱبن مسعود يقول: يجدون عاقبتها طعم المسك. ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا: ختامه آخر طعمه. وهو حسن لأن سبيل الأشربة أن يكون الكَدَر في آخرها، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك. وعن مسروق عن عبد الله: قال المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يَفُكَّ ختامها الأبرار. وقرأ عليّ وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي «خاتَمه» بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: ٱجعل خاتَمه مسكاً، قاله الفراء. وفي الصحاح: والخِتام: الطين الذي يُخْتم به. وكذا قال مجاهد وٱبن زيد: خُتم إناؤه بالمسك بدلاً من الطين. حكاه المهدويّ. وقال الفرزدق:
وبِت أَفُضّ أَغلاق الخِتامِ   
وقال الأعشى:
وأبرزها وعليها خَتَمْ   
أي عليها طينة مختومة مثل نَفْضٍ بمعنى منفوضٍ، وقَبْضٍ بمعنى مقبوضٍ. وذكر ٱبن المبارك وٱبن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: «خِتامه مِسْك»: خَلْطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خِلْطه من الطِّيب كذا وكذا. إنما خِلْطه مسك قال: شراب أبيض مثل الفضة يختِمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها.

السابقالتالي
2