الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } * { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } * { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }

قوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }: «كَلاّ»: ردْع وزجْر، أي ليس هو أساطيرَ الأَوّلينَ. وقال الحسن: معناها حقاً «رَانَ على قُلُوبهمْ». وقيل: في الترمذيّ: عن أبي هُريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نُكْتة سوداء، فإذا هو نزع وٱستغفر الله وتاب، صُقِل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلُوَ على قلبه، وهو الرَّانُ الذي ذكر الله في كتابه «كَلاّ بلْ رَان على قُلُوبهمْ ما كانوا يَكْسِبون» " قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب. قال مجاهد: هو الرجل يُذْنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يدنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تُغَشِّي الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً }... الآية. ونحوه عن الفراء قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْنُ عليها. ورُوي عن مجاهد أيضاً قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب ٱنقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب ٱنقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يُطْبَع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرَّيْن، ثم قرأ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }. ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانياً صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمُنْخُل، أو كالغِربال، لا يعي خيراً، ولا يثبُت فيه صلاح. وقد بيَّنا في «البقرة» القولَ في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإِعادتها. وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ٱبن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ٱبن عباس شيئاً الله أعلم بصحته قال: هو الرَّان الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يُلْبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يُضْمن عُهْدة صحتِه. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهلُ اللغة عليه يقال: رَانَ على قلبه ذنبُه يَرِينُ رَيْنا ورُيونا أي غلب. قال أبو عُبيدة في قوله: «كَلاَّ بلْ رَانَ علَى قُلُوبِهمْ ما كانوا يكسِبُونَ» أي غلب وقال أبو عُبيد: كل ما غلبك وعَلاَكَ فقد ران بك، ورانك، وران عليك وقال الشاعر:
وكَمْ رانَ مِن ذنبٍ على قلِب فاجِرٍ   فتابَ مِن الذنبِ الذي رَانَ وٱنجلَى

السابقالتالي
2