الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } * { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } * { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } * { وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } * { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } * { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } * { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } * { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } * { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } * { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ }

قوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما ٱمتَنَّ به عليهم. والصاخّة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تَصُخ الأسماع: أي تُصِمُّها فلا تسمع إلا ما يُدْعَى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تِصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي ٱستمع إليه، ومنه الحديث: " ما من دابة إلاّ وهي مُصِيخة يومَ الجمعة شَفَقاً من الساعة إلاّ الجنَّ والإِنس " وقال الشاعر:
يُصِيخُ لِلَّنبْأَةِ أَسْماعَهُ   إِصاخةَ المُنْشِدِ لِلمنْشِدِ
قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأوّل، قال الخليل: الصاخَّة: صيحة تَصُخّ الآذان صَخًّا أي تُصِمُّها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصَّكُّ الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صَخَّه بالحجر: إذا صَكَّه، قال الراجز:
يا جارتِي هل لكِ أن تجالِدِي   جلادة كالصَّك بالجَلامِدِ
ومن هذا الباب قول العرب: صَخَّتْهمُ الصّاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبريّ: وأحسبه من صَخّ فلان فلاناً: إذا أصماه. قال ٱبن العربيّ: الصاخّة التي تُورِث الصَّمَم، وإنها لمُسِمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حَديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أَصَمَّ بِكَ الناعِي وإِنْ كان أَسْمَعا   
وقال آخر:
أَصَمَّنِي سِرُّهم أيامَ فُرقتهم   فهل سمِعتم بسِر يُورِث الصَّمَما
لعمر اللَّهِ إنّ صيحة القيامة لمسمِعة تُصِم عن الدنيا، وتُسمِعُ أمور الآخرة. قوله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه أي من موالاة أخيه ومكالمته لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه كما قال بعده: { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التَّبِعات. وقيل: لئلا يرَوَا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً كما قال: " يوم لا يغنِي مولًى عن مولًى شيئاً " وقال عبد الله بن ظاهر الأبهري: يفرّ منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما ٱعتمد شيئاً سوى ربه تعالى. { وَصَاحِبَتِهُ } أي زوجته. { وَبَنِيهِ } أي أولاده. وذكر الضحاك عن ٱبن عباس قال: يفرّ قابيلُ من أخيه هابيلَ، ويفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ٱبنه، ولوط من ٱمرأته، وآدم من سَوْأة بنيه. وقال الحسن: أوّل من يفرّ يوم القيامة من أبيه: إبراهيم، وأوّل من يفرّ من ٱبنه نوح، وأوّل من يفرّ من ٱمرأته لوط.

السابقالتالي
2