الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

فيه خمس مسائل: الأُولى ـ قوله تعالىٰ: { أَسْرَىٰ } جمع أسِير مثلُ قتيل وقتْلَىٰ وجَريح وجَرْحَىٰ. ويُقال في جمع أسير أيضاً: أُسَارَى بضم الهمزة وأَسارَى بفتحها وليست بالعالية. وكانوا يَشُدّون الأسير بالقِدّ وهو الإسار فسُمِّيَ كل أخِيذ وإن لم يُؤسر أسيراً. قال الأعشى:
وقَيَّدنِي الشّعر في بيتِهِ   كما قَيّد الآسِراتُ الحِمارا
وقد مضى هذا في سورة «البقرة». وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثَقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون رَبْطاً. وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب. الثانية ـ هذه الآية نزلت يوم بدر، عتاباً من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان. ولهم هذا الإخبارُ بقوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا }. والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قطّ عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجهاً بسبب من أشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ الفِدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم يَنْه عنه حين رآه من العَرِيش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة، ولكنه عليه السَّلام شغَله بَغْتُ الأمر ونزولُ النصر فترك النّهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم. روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم أوّله في «آل عمران» وهذا تمامه. قال أبو زُمَيل: " قال ابن عباس: فلما أسروا الأُسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العمّ والعشِيرة، أرى أن تأخذ منهم فِديةً، فتكون لنا قوّة على الكفار، فعسىٰ الله أن يهدِيهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يٱبن الخطاب»؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنا فنضرب أعناقهم، فَتُمَكِّن عَلِيّاً من عَقِيل فيضِربَ عنقه، وتمكِّنِّي من فلان نَسِيباً لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها. فَهِويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلتُ فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ قاعِدَيْن يبكيان فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبُك فإن وجدتُ بكاء بكيتُ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبْكي للذي عَرض عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء لقد عُرض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ» "

السابقالتالي
2 3 4