الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

فيه مسألتان: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } إنما قال «لها» لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا ـ يعني الذين نبذ إليهم عهدهم ـ إلى المسالمة أي الصلح، فمِل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحِشُوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرُّمّة:
إذا مات فوق الرَّحْل أحييتُ روحَه   بذكراكِ والعِيسُ المراسيل جُنَّحُ
وقال النابغة:
جوانحُ قد أيقنّ أن قَبِيله   إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ
يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسَّلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن مُحَيْصِن والمفضّل «لِلسِّلِم» بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدّم معنى ذلك في «البقرة» مستوفًى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور «فٱجنح» بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي «فٱجنُح» بضم النون، وهي لغة قيس. قال ٱبن جنيّ: وهذه اللغة هي القياس. الثانية ـ وقد ٱختُلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعِكرمة: نسخهافَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5].وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة: 36] وقالا: نسخت براءة كلَّ موادعة، حتى يقولوا لا إلۤه إلا الله. ٱبن عباس: الناسخ لها «فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ». وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجِزية من أهل الجزْية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومَن بعده من الأئمة كثيراً من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من أهل البلاد على مال يؤدونه من ذلك خَيْبر، ردّ أهلَها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدّوا النّصف. قال ٱبن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السُّدِّيّ وابن زيد: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربيّ: وبهذا يختلف الجواب عنه وقد قال الله عز وجل:فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد: 35]. فإذا كان المسلمون على عِزّة وقُوّة ومنَعَة، وجماعة عديدة، وشدّة شديدة فلا صلح كما قال:
فلا صلَح حتى تُطعن الخيلُ بالقَنا   وتُضرب بالبِيض الرقاق الجماجمُ
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفعٍ يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضَّمْرِيّ وأكَيْدِرَ دُومَة وأهلَ نجران، وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.

السابقالتالي
2