الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } أي غِشَّا ونقضاً للعهد. { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } وهذه الآية نزلت في بني قُريظة وبني النَّضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ٱبن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» ثم ٱبتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حدّ من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة. الثانية ـ قال ٱبن العربيّ: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظنّ لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما ـ أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم قال الله تعالى: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }. الثاني ـ إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا عُلم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح لما اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبِذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهريّ: معناه إذا عاهدت قوماً فعلمت منهم النقض بالعهد فلا تُوقع بهم سابقاً إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والموادعة فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافنّ من قوم بينك وبينهم عهدٌ خيانةً فٱنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً. ثم بيّن هذا بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ }. قلت: ما ذكره الأزهريّ والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يردّه فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في فتح مكة فإنهم لما نقضوا لم يوجِّه إليهم بل قال: " اللَّهُمَّ اقطع خبر عنهم " وغزاهم. وهو أيضاً معنى الآية لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذِيّ وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرُب حتى إذا ٱنقضى العهد غزاهم فجاءه رجل على فرس أو بِرذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

السابقالتالي
2