الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }

قوله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } العامل في «إذ، يثبت» أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل: العامل «لِيربط» أي وليربِط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. «معكم» بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال فكان المَلك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم وقد تقدّم في «آل عمران» أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رؤوساً تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمِع بعضهم قائلاً يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدِم حيزوم. وقيل: كان هذا التثبيت ذِكرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مدداً. قوله تعالى: { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } تقدّم في «آل عمران» بيانه. { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } هذا أمر للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي ٱضربوا الأعناق، و «فوق» زائدة قاله الأخفش والضحاك وعطِية. وقد روى المسعودِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أبعث لأُعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرّقاب وشدّ الوثاق " وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأن «فوق» تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. وقال ابن عباس: كل هام وجُمْجُمة. وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرؤوس قاله عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ. وقد مضى شيء من هذا المعنى في «النساء» وأن «فوق» ليست بزائدة، عند قوله:فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } [النساء: 11]. { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من قولهم أبَّنَ الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يُعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرّجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة:
وكان فَتَى الهَيْجاء يحمِي ذِمَارها   ويضرب عند الكَرْب كلّ بَنانِ
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضاً:
وأنّ الموت طوع يدي إذا ما   وصلت بنانَها بالهِنْدُوَانِي
وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقرّ الإنسان ويَبِنّ. وقال الضحاك: البنان كل مفصِل.