الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } * { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } * { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } * { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } * { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } * { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } * { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }

قوله تعالى: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً }: يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم { أَمِ ٱلسَّمَآءُ } فمن قَدَر على السماء قَدَر على الإعادة كقوله تعالى: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } وقوله تعالى: { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: { بَنَاهَا } أي رفعها فوقكم كالبناء. { رَفَعَ سَمْكَهَا } أي أعلى سقْفها في الهواء يقال: سَمَكت الشيءَ أي رفعته في الهواء، وسَمَك الشيءُ سُمُوكاً: ٱرتفع. وقال الفرّاء: كل شيء حَمَل شيئاً من البناء وغيره فهو سَمْك. وبناء مَسْمُوك وسَنام سامِك تامِك أي عالٍ، والمسموكات: السَّمَوات. ويقال: ٱسْمُك في الدَّيْم، أي ٱصعد في الدرجة. قوله تعالى: { فَسَوَّاهَا } أي خلقها خلقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا شُقوق، ولا فُطُور. { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي جعله مظلماً غَطِشَ الليلُ وأغطشُه الله كقولك: ظَلِم الليلُ وأظلمه الله. ويقال أيضاً: أغطشَ الليلُ بنفسه، وأغطشه الله كما يقال: أظلَم الليلُ، وأظلمه الله. والغَطَش والغَبَش: الظلمة. ورجل أغطَش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غَطِش، والمرأة غَطْشاء ويقال: ليلة غَطْشاء، وليلٌ أغطش، وفلاة غَطْشَى لا يُهْتَدَى لها قال الأعشى:
ويَهْماءَ بالليلِ غَطشَى الفَلا   ةِ يؤنِسنِي صوتُ فَيادِها
وقال الأعشى أيضاً:
عَقَرْتُ لهمْ مَوْهِناً ناقتِي   وغامِرُهُمْ مدلهِمٌّ غَطِشْ
يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل. { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي أبرز نهارَها وضوءها وشمسها. وأضاف الضُّحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول «البقرة» عند قوله تعالى:هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29] مستوفًى. والعرب تقول: دَحَوْت الشيءَ أدحوه دحواً: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِيّ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:
وبثَّ الخلقَ فيها إِذ دَحاها   فهُمْ قُطَّانُها حتّى التنادِي
وأنشد المبرّد:
دحاها فلما رآها ٱستوت   على الماءِ أرسى عليها الجِبالاَ
وقيل: دحاها سوّاها ومنه قول زيد بن عمرو:
وأَسلمتُ وجهي لمن أَسلمتْ   له الأَرضُ تحمِل صَخْراً ثِقالا
دحاها فلما ٱستوت شَدَّها   بأيْدٍ وأرسَي عليها الجِبالا
وعن ٱبن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أنّ «بعد» في موضع «مع» كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها كما قال تعالى:عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 13]. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سَيِّءُ الخلق قال الشاعر:

السابقالتالي
2