الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } * { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } * { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } * { وَكَأْساً دِهَاقاً } * { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } * { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }

قوله تعالى: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } ذَكَر جزاء من ٱتقى مخالفة أمر الله «مَفازاً» موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفُلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلاً بالخلاص منها. { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } هذا تفسير الفوز. وقيل: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } إن للمتقين حدائقَ جمع حديقة، وهي البستان المُحَوَّط عليه يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } كواعِب: جمع كاعِب وهي الناهد يقال: كَعَبَت الجارية تَكْعَب كُعوباً، وكَعَّبت تُكَعِّب تكعِيباً، ونَهَدت تَنْهَد نُهوداً. وقال الضحاك: ككواعب العَذَارَى ومنه قول قيس بن عاصم:
وكْم مِن حَصانٍ قد حَوَينا كرِيمةٍ   ومِن كاعِبٍ لم تدرِما البؤسُ مُعْصِرِ
والأتراب: الأقران في السنّ. وقد مضي في سُورة «الواقعة» الواحد: ترب. { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال الحسن وقتادة وٱبن زيد وٱبن عباس: مُتْرعة مملوءة يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دِهاق أي ممتلِئة قال:
ألا فاسقِنِي صِرْفاً سقانِي الساقِي   مِن مائِها بِكأسك الدِّهاقِ
وقال خِدَاش بن زُهَير:
أتانا عامِرٌ يبغِي قِرانَاً   فأَتْرعْنا له كأساً دِهاقاً
وقال سعيد بن جُبير وعِكرمة ومجاهد وٱبن عباس أيضاً: متتابعة، يَتبع بعضُها بعضاً ومنه ادَّهَقتِ الحِجارة ٱدِّهاقاً، وهو شدّة تلازُ بها ودخول بعضها في بعض فالمتتابع كالمتداخل. وعن عِكرمة أيضاً وزيد بن أسَلم: صافية قال الشاعر:
لأَنتِ إِلى الفؤادِ أحبُّ قرباً   مِن الصادِي إِلى كأسٍ دِهاقِ
وهو جمع دَهَقَ، وهو خشبتان يغمز بهما الساق. والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمراً ذات دهاق، أي عُصِرت وصُفِّيت قاله القشيريّ. وفي الصحاح: وأَدْهَقْت الماء: أي أفرغته إفراغاً شديداً: قال أبو عمرو: والدَّهَق ـ بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية أَشْكَنْجَهْ. المبرد: والمدهوق: المعذَّب بجميع العذاب الذي لا فُرجة فيه. ٱبن الأعرابي: دَهَقْت الشيء كسرته وقطعته وكذلك دَهْدَقْته: وأنشد لحُجْر بن خالد:
نُدَهْدِق بَضْعَ اللحم لِلباعِ والندَى   وبعضهُمُ تغلي بذمٍّ مَناقِعُهْ
ودَهْمَقته بزيادة الميم: مثله. وقال الأصمعي: الدهمقة: لِين الطعام وطِيبهُ ورِقته، وكذلك كل شيء ليّن ومنه حديث عمر: لو شئت أن يُدهْمَقَ لي لفعلت، ولكن الله عاب قوماً فقال:أَذهبتم طيباتِكم فِي حَياتِكُمُ الدنيا وٱستمتعْتمْ بِها } [الأحقاف: 20]. قوله تعالى: { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } أي في الجنة { لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } اللغو: الباطل، وهو ما يُلْغَى من الكلام ويُطَّرَح ومنه الحديث: " إذا قلت لصاحبك أنصِت يوم الجمعة والإِمام يخطب فقد لَغَوْت " وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو بخلاف أهل الدنيا. «ولا كِذّاباً»: تقدم، أي لا يُكَذِّب بعضهم بعضاً، ولا يسمعون كذباً. وقرأ الكسائي «كِذَاباً» بالتخفيف من كَذَبْت كِذَاباً أي لا يتكاذَبُون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له، وشدّد قوله: { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذَّاب.

السابقالتالي
2