الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } * { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } * { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } * { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } * { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } * { جَزَآءً وِفَاقاً } * { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } * { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } * { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } * { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }

قوله تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً }: مِفعال من الرَّصَد والرصَد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رَصَداً، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حُبِس. وعن سُفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قَناطر. وقيل «مِرصاداً» ذات أَرْصاد على النسب، أي ترصد من يمرّ بها. وقال مقاتل: مَحْبِساً. وقيل: طريقاً وممرّاً، فلا سبيل إلى الجنة حتى يَقْطع جهنم. وفي الصّحاح: والمِرصاد: الطريق. وذكر القُشَيريّ: أن المرصاد المكان الذي يَرصُد فيه الواحد العدوّ، نحو المِضمار: الموضع الذي تُضَمَّر فيه الخيل. أي هي معدّة لهم فالمِرصاد بمعنى المحلّ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماورديّ عن أبي سِنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيءِ: الراقبُ له تقول: رصدَه يرصدُه رَصْداً ورَصَداً، والترصُّد: الترقب. والمَرْصَد: موضع الرصْد. الأصمعيّ: رَصَدْته أرصُده: ترقبته، وأرْصدته: أعددت له. والكسائي: مثله. قلت: فجهنم مُعَدّة مترصّدة، مُتفعِّل من الرصْد وهو الترقب أي هي متطلعة لمِن يأتي. والمِرصاد مِفعال من أبنية المبالغة كالمِعطار والمِغيار، فكأنه يكثر من جهنم ٱنتظار الكفار. { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } بدل من قوله: «مِرصادا» والمآب: المرجع، أي مرجعاً يرجعون إليها يقال: آب يَئُوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوًى ومنزلاً. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم. قوله تعالى: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب. والحُقُب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحِقْبة بالكسر: السَّنة والجمع حِقَب قال متمم بن نُويرة التميمي:
وكنا كنَدْمانَيْ جَذيمة حِقبةً   مِن الدَّهرِ حتى قيل لنْ يتصدّعَا
فلما تفرّقنا كأَنِّي ومالِكاً   لِطولِ ٱجتماعٍ لم نبِتْ ليلة معَاً
والحُقُب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحُقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامُهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العُصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغَسَّاق، فءذا ٱنقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ولهذا قال: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً }.

السابقالتالي
2 3 4