الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } * { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } * { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } * { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } * { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } * { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } * { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } * { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } * { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } * { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } * { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً }

قوله تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً }: دلهم على قدرته على البعث أي قُدْرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمِهاد: الوِطاء والفراش. وقد قال تعالى:ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [البقرة: 22] وقُرِىء «مَهْداً». ومعناه أنها لهم كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } أي لتسكن ولا تتكَفْأ ولا تميل بأهلها. { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } أي أصنافاً: ذكراً وأنثى. وقيل: ألواناً. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ } «جعلنا» معناه صَيَّرنا ولذلك تعدّت إلى مفعولين. { سُبَاتاً } المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السَّبْت أي يوم الراحة أي قيل لبني إسرائيل: ٱستريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئاً. وأنكر ٱبن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سُبَات. وقيل: أصله التمدّد يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسُبَات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدّد، فسميت الراحة سبتا. وقيل: أصله القُطْع يقال: سَبَتَ شعره سَبْتا: حَلَقه وكأنه إذا نام ٱنقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سَير سَبْت: أي سهل لين قال الشاعر:
وَمطْويةِ الأقرابِ أمّا نهارُها   فَسَبْتٌ وأمّا ليلُها فذَمِيلُ
قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً } أي تلبَسكم ظلمته وتغشاكم قاله الطبري. وقال ٱبن جُبير والسُّدي: أي سَكنا لكم. { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } فيه إضمار، أي وقْتَ معاشٍ، أي مُتَصَرَّفاً لِطلب المعاش وهو كل ما يُعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ «ـمعاشا» على هذا ٱسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } أي سبع سموات محكمات أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } أي وقَّاداً وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق لأنها تعدّت لمفعول واحد والوهاج الذي له وَهَج يقال وهَجَ يهِج وَهْجا ووَهَجاً ووَهَجَاناً. ويقال للجوهر إذا تلالأ توهّج. وقال ٱبن عباس: وهَّاجاً منيراً متلألئاً. { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } قال مجاهد وقتادة: والمعصِرات الرياح. وقاله ابن عباس. كأنها تَعْصِر السحاب. وعن ٱبن عباس أيضاً: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصِر بالماء ولما تُمْطر بعد، كالمرأة المُعْصِر التي قددنا حيضُها ولم تحض، قال أبو النجم:
تمشِي الهُوَينَى مائلاً خِمارُها   قد أَعْصَرتْ أوقد دنا إعصارها
وقال آخر:
فكان مجِني دون من كنت أتقِي   ثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِبان ومُعْصِرُ
وقال آخر:
وذِي أشُرٍ كالأُقْحوانِ يزِينهُ   ذِهابُ الصَّبا والمُعْصِراتُ الرَّوائِحُ
فالرياح تسمى مُعْصرات يقال: أَعْصَرَت الريح تُعْصِر إعصاراً: إذا أثارت العجاج، وهي الإِعصار، والسحب أيضاً تسمى المُعْصِرات لأنها تمطر.

السابقالتالي
2