الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً }

قوله تعالى: { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } بين حال الفريقين، وأنه تعَبَّد العقلاء وكَلَّفهم ومَكَّنهم مما أمرهم، فمن كَفَر فله العقاب، ومن وَحَّد وشكَر فله الثواب. والسلاسِل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعاً كما مضى في «الحاقة». وقرأ نافع والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ٱبن عامر «سَلاَسِلاً» منوّناً. الباقون بغير تنوين. ووقف قُنْبُل وٱبن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما «قوارِير» الأوّل فنوّنه نافع وٱبن كثير والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم، ولم ينوّن الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما «قَوَارِير» الثانية فنوّنه أيضاً نافع والكسائيّ وأبو بكر، ولم ينوّن الباقون. فمن نوّن قرأها بالألف، ومن لم ينوّن أسقط منها الألف، وٱختار أبو عُبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف ٱتباعاً لخط المصحف قال: رأيت في مصحف عثمان «سَلاَسِلاً» بالألف و «قَوَارِيراً» الأوّل بالألف، وكان الثاني مكتوباً بالألف فَحُكَّت فرأيت أثرها هناك بَيِّناً. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها ـ أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية ـ أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أَفْعَل منك، وكذا قال الكسائيّ والفراء: هو على لغة من يُجرِ الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يُجْرونه وأنشد ٱبن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كُلْثوم:
كَأَنَّ سُيوفَنَا فِينا وفِيهِمْ   مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لاَعِبِينَا
وقال لَبِيد:
وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعوتُ لِحَتفِها   بِمَغَالِقٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُهَا
وقال لَبِيد أيضاً:
فَضَلاً وذو كَرمٍ يُعِينُ على النَّدَى   سَمْحٌ كَسُوبُ رَغَائِبٍ غَنَّامُهَا
فصرف مَخَاريق ومَغَالق ورَغَائب، وسبيلها ألا تُصرَف. والحجة الثالثة ـ أن يقول نوّنت قوارِير الأوّل لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جلّ وعزّ: { مَّذْكُوراً } { سَمِيعاً بَصِيراً } فنوّنا الأوّل ليوقف بين رؤوس الآي، ونوّنا الثاني على الجوار للأوّل. والحجة الرابعة ـ ٱتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعاً في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد ٱحتج من لم يصرفهنّ بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدّد لم يُصَرف في معرفة ولا نكرة فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل:لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } [الحج: 40] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله:وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً } [الحج: 40] والذي بعد الألف منه حرف مُشَدّد شَوَابّ ودَوَابّ. وقال خلف: سمعت يحيـى بن آدم يحدّث عن ٱبن إدريس قال: في المصاحف الأوَل الحرف الأوّل بالألف والثاني بغير ألف فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ٱبن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أَفْعَل مِنْك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منوّناً لأن مِن تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين قاله الفراء وغيره. قوله تعالى: { وَأَغْلاَلاً } جمع غُلّ تُغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جُبَير ابن نُفَير عن أبي الدراء كان يقول: ٱرفعوا هذه الأيدي إلى الله جلّ ثناؤه قبل أن تُغلّ بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الربّ سبحانه ولكن إذلالاً. { وَسَعِيراً } تقدّم القول فيه.