الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } * { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } * { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } * { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً }

قوله تعالى: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } بيّن مَن الذي يطوف عليهم بالآنية أي ويخدمهم ولدان مُخلَّدون، فإنهم أخفُّ في الخدمة. ثم قال: { مُّخَلَّدُونَ } أي باقون على ما هم عليه من الشَّباب والغَضَاضة والحُسْن، لا يَهْرَمون ولا يتغيّرون، ويكونون على سنّ واحدة على مَر الأزمنة. وقيل: مُخلَّدون لا يموتون. وقيل: مُسوَّرون مُقَّرطون أي مُحلَّون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤاً مفرقاً في عَرْصة المجلس، واللؤلؤ إذا نُثِر على بساط كان أحسن منه منظوماً. وعن المأمون أنه ليلة زُفَّت إليه بُوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نَثَرت عليه نساءُ دار الخليفة اللؤلؤَ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فٱستحسن المنظر وقال: للَّهِ دَرُّ أبي نُواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنَّ صُغْرى وكُبْرىَ من فَقَاقِعها   حَصْبَاءُ دَرٍّ على أرضٍ مِنَ الذَّهَبِ
وقيل: إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههنّ باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهنّ لا يُمتهنَّ بالخدمة. قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } «ثَمَّ»: ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في «ثَمَّ» معنى «رَأَيْتَ» أي وإذا رأيت ببصرك «ثَمَّ». وقال الفرّاء: في الكلام «ما» مضمرة أي وإذا رأيت ما ثَمّ كقوله تعالى:لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94] أي ما بينكم. وقال الزجاج: «ما» موصولة بـ«ـثم» على ما ذكره الفرّاء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصّلة، ولكن «رَأَيْتَ» يتعدّى في المعنى إلى «ثَمَّ» والمعنى: إذا رأيت ببصرك «ثَمَّ» ويعني بـ «ـثَمَّ» الجنة، وقد ذكر الفرّاء هذا أيضاً. والنعيم: سائر ما يُتنعمّ به. والمُلْك الكبير: ٱستئذان الملائكة عليهم قاله السُّديّ وغيره. قال الكلبيّ: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكُسْوة والطعام والشراب والتحف إلى وليّ الله وهو في منزله، فيستأذن عليه فذلك المُلْك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: المُلْك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجباً، حاجباً دون حاجب، فبينما وليّ الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه مَلَك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفةٍ من ربّ العالمين لم يرها ذلك الوليّ في الجنة قطّ، فيقول للحاجب الخارج: ٱستأذن علي وليّ الله فإن معي كتاباً وهدية من ربّ العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من ربِّ العالمين، معه كتاب وهديّة يستأذن على وليّ الله فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي وليّ الله فيقول له: يا وليّ الله! هذا رسول من ربّ العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتُحْفة من ربّ العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له.

السابقالتالي
2 3 4