الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } * { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } * { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }

قوله تعالى: { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } على الفقر. وقال القرظيّ: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذْر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و «ما»: مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلاً حسناً. وروى ٱبن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: " الصبر أربعة: أوّلها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على ٱجتناب محارم الله، والصبر على المصائب " { جَنَّةً وَحَرِيراً } أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة وفيه ما شاء الله عزّ وجلّ من الفضل. وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما أُلبسه من أُلبسه في الجنة عوضاً عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. قوله تعالى: { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } أي في الجنة ونصب «مُتَّكِئِينَ» على الحال من الهاء والميم في «جَزَاهُمْ» والعامل فيها جزي ولا يعمل فيها «صَبَرُوا» لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفرّاء. وإن شئت جعلت «مُتَّكِئِينَ» تابعاً، كأنه قال جزاهم جنة { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا }. { عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } السُّرُر في الحِجَال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حَجَلة على سرير، ومنها السَّجْل، وهو الدّلو الممتليء ماءً، فإذا صَفِرت لم تُسمَّ سَجْلاً، وكذلك الذَّنُوب لا تُسمَّى ذَنُوباً حتى تُملأ، والكأس لا تسمى كأساً حتى تُتْرَع من الخمر. وكذلك الطَّبَق الذي تُهدَى عليه الهدية مِهْدَى، فإذا كان فارغاً قيل طَبَق أو خِوان قال ذو الرُّمَّة:
خُدُودٌ جَفَتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا   يُبَاشِرْنَ بِالْمَعْزاءِ مَسَّ الأرائِكِ
أي الفرش على السرر. { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } أي لا يرون في الجنة شدة حرٍّ كحرِّ الشمس { وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي ولا برداً مفرطاً قال الأعشى:
مُنَعَّمَةٌ طَفْلَةٌ كَالْمَهَا   ةِ لَمْ تَرَ شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيرَاً
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ٱشتكت النارُ إلى ربِّها عزّ وجلّ قالت: يا ربّ أَكَلَ بعضي بعضاً، فجعل لها نَفَسين نَفَساً في الشتاء ونَفَساً في الصّيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون من الحرّ في الصيف من سَمُومها " وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن هواء الجنة سَجْسَج: لا حرٌّ ولا بردٌ " والسَّجْسَج: الظِّل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مُرَّة الهَمْداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.

السابقالتالي
2 3