الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } * { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }

قوله تعالى: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ٱبن عباس: «بَصِيرَةٌ» أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفرّاء:
كأنّ على ذي العقلِ عَيْناً بصيرةً   بمعقِده أو مَنْظَرٍ هو ناظِرُهُ
يُحاذِرْ حتى يَحسِبَ الناسَ كلَّهمْ   من الخوفِ لا تَخْفَى عليهم سَرَائِرُهُ
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى:يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24]. وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة قال معناه القتبيّ وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: «بَصِيرَةٌ» هي التي يسمِّيها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهِية وعلاّمة وراوية. وهو قول أبي عُبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر يدل عليه قوله تعالى: { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } فيمن جعل المعاذير السُّتور. وهو قول السّديّ والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون «بصيرة» نعتاً لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء:
كأنّ علـى ذِي العقلِ عينـاً بصيرةً   
وقال الحسن في قوله تعالى: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } أي ولو أَرْخَى سُتوره. والسِّتر بلغة أهل اليمن: مِعذار قاله الضحاك. وقال الشاعر:
ولكنها ضَنَّتْ بِمنزِلِ ساعةٍ   علينا وأَطَّتْ فَوْقَهَا بالْمَعَاذِرِ
قال الزجاج: المعاذِر: السُّور، والواحد مِعذار أي وإن أرخى ستره يريد أن يخفي عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو ٱعتذر فقال لم أفعل شيئاً، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن ٱعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذِّب عذره قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جُبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفرّاء والسّديّ أيضاً ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى:يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [غافر: 52] وقوله:وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر قال الشاعر:
وإِياكَ والأمرَ الذي إنْ تَوَسَّعَتْ   مَوَارِدُهُ ضاقتْ عليكَ المصادِرُ
فما حَسنٌ أن يَعْذِرَ المرءُ نفسَهُ   وليس له مِن سائِرِ الناسِ عاذر
وٱعتذر رجل إلى إبراهيم النَّخَعيّ فقال له: قد عذرتك غير مُعتذِر، إن المعاذِير يَشُوبها الكذب. وقال ٱبن عباس: { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } أي لو تجرّد من ثيابه. حكاه الماورديّ. قلت: والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ومنه قول النابغة:

السابقالتالي
2 3 4 5