الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } * { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } * { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } * { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } * { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ }

قوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } أي فما لأهل مكة قد أعرضوا وولَّوا عما جِئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و «مُعْرِضِينَ» نصب على الحال من الهاء والميم في «لَهُمْ» وفي اللام معنى الفعل فٱنتصاب الحال على معنى الفعل. { كَأَنَّهُمْ } أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم { حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } قال ٱبن عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وٱبن عامر بفتح الفاء، أي مُنَفَّرة مذعورة وٱختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال: نَفَرت وٱسْتَنفرت بمعنًى مثل عَجِبت وٱسْتَعجبت، وسَخِرت وٱسْتَسخرت، وأنشد الفراء:
أَمْسِكْ حِمَارَك إنّه مُسْتَنْفِرٌ   في إِثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرّبِ
قوله تعالى: { فَرَّتْ } أي نفرت وهربت { مِن قَسْوَرَةٍ } أي من رُماة يرمونها. وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القَسْورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وٱبن كَيْسان: القسْورة: هم الرّماة والصيادون، ورواه عطاء عن ٱبن عباس وأبو ظَبيان عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد قاله أبو هريرة وٱبن عباس أيضاً. ٱبن عرفة: من القَسْر بمعنى القَهْر أي إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ٱبن عباس قال: ما أعلم القسورةَ الأسَد في لغة أحد من العرب، ولكنها عُصَب الرجال قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:
يا بنتُ كُونِي خَيْرةً لِخيِّره   أخوالُها الجنّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وعنه: رِكْز الناس أي حسّهم وأصواتهم. وعنه أيضاً: «فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» أي من حبال الصيادين. وعنه أيضاً: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة وبلسان فارس: شير، وبلسان النَّبَط: أريا. وقال ٱبن الأعرابي: القسورة: أوّلُ الليل أي فّرت من ظلمة الليل. وقاله عِكرمة أيضاً. وقيل: هو أوّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قَسْورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقَسْور. وقال لبيد بن ربيعة:
إذا ما هَتْفنا هَتفةً في نَدِيِّنا   أتانا الرجالُ العائدون القَسَاوِر
قوله تعالى: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } أي يعطي كتباً مفتوحة وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ٱيتنا بكتب من ربّ العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلتُ إليكم محمداً، صلى الله عليه وسلم. نظيره:وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [الإسراء: 93]. وقال ٱبن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقاً فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الورّاق: أرادوا أن يُعطَوا بغير عمل. وقال الكلبيّ: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك.

السابقالتالي
2