الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } * { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً }

فيه خمس مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } قال العلماء: نائشة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أوّلاً فأولاً يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ٱبتدأ وأقبل شيئاً بعد شيء، فهو ناشىء وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى:أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف: 18] والمراد إن ساعات الليل النائشة، فٱكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لأن كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى قيام الليل كالخاطئة والكاذبة أي إن نشأة الليل هي أشدّ وطأ. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ٱبن مسعود: الحَبَشة يقولون: نشأ أي قام. فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدّم بيان هذا في مقدّمة الكتاب مستوفًى. الثانية ـ بيّن تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. وٱختلف العلماء في المراد بناشئة الليل فقال ٱبن عُمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكاً بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحقّ ومنه قول الشاعر:
ولولا أَنْ يُقالَ صَبَا نُصَيبٌ   لَقلتُ بِنفسِيَ النَّشَأ الصِّغارُ
وكان عليّ بن الحسين يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعِكرمة: إنه بدء الليل. وقال ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي ٱختاره مالك بن أنس. قال ٱبن العربيّ: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وٱبن عباس أيضاً ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أوّل الليل قبل النوم فما قام نائشة. فقال يَمان وٱبن كَيْسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ٱبن عباس: كانت صلاتهم أوّل الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أوّل ساعاته. وقال القُتَبيّ: إنه ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضاً: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات حكاه الجوهريّ. الثالثة ـ قوله تعالى: { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ أبو العالية وأبو عمرو وٱبن أبي إسحاق ومجاهد وحُميد وٱبن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حَيْوة «وِطَاء» بكسر الواو وفتح الطاء والمدّ، وٱختاره أبو عبيد. الباقون: «وَطأً» بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، وٱختاره أبو حاتم من قولك: ٱشتدت على القوم وطأة سلطانهم.

السابقالتالي
2 3