الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } هذه الآية تفسير لقوله تعالى: { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } كما تقدّم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدّم. «تَقُومُ» معناه تصلّي و { أَدْنَىٰ } أي أقلّ. وقرأ ٱبن السَّمَيْقَع وأبو حَيْوة وهشام عن أهل الشام { ثُلُثَيِ } بإسكان اللام. { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالخفض قراءة العامة عطفاً على «ثُلُثَيِ» المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. وٱختاره أبو عبيد وأبو حاتم كقوله تعالى: { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ } فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ٱبن كثير والكوفيون «ونِصْفَهُ وَثُلُثَه» بالنصب عطفاً على «أَدْنَى» التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفَه وثلثَه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب لأنه قال أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القِلّة لا أقلّ من القلّة. القُشَيْري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أُمروا بقيام نصف الليل، ورُخّص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدّر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نُسخ عنهم. وقال قوم: إنما ٱفترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكُّم. الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحرّي والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيامَ به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأوّل أصح فإنّ قيام الليل ما فُرض كله قطّ. قال مقاتل وغيره: لما نزلت { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطيء، فٱنتفخت أقدامهم، وٱنْتُقِعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفّف عنهم فقال تعالى: { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } و «أَنْ» مخفّفة من الثقيلة أي علم أنكم لن تحصوه لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، وٱحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شقّ ذلك عليكم. الثالثة ـ قوله تعالى: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذْ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدّم فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عُسْر إلى يُسْر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6