الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } * { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } * { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } * { ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } * { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }

قوله تعالى: { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } وهو موسى { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكَر موسى وفرعون لأن أهل مكة ٱزدرَوا محمداً صلى الله عليه وسلم وٱستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ٱزدرى موسى لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى:أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [الشعراء: 18]. قال المهدويّ: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذلك ٱختير في أوّل الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. { وَبِيلاً } أي ثقيلاً شديداً. وضَرْبٌ وبيل وعذاب وبيل: أي شديد قاله ٱبن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلاً غليظاً. ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مُهلكاً والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة قال:
أَكَلْتِ بَنِيِك أَكْلَ الضَّبِّ حتى   وجَدْتِ مَرَارةَ الْكَلإَ الْوَبِيلِ
واستوبل فلان كذا: أي لم يَحَمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وَكَلأٌ مستَوْبَل وطعام وبيل ومُستَوبَلٌ: إذا لم يُمْرِيء ولم يُسْتَمْرأْ قال زهير:
فَقَضَّوْا مَنايَا بَيْنَهُمْ ثم أَصْدَرُوا   إِلَى كَلأٍ مُسْتَوَبَلٍ مُتَوَخَّمِ
وقالت الخنساء:
لَقَدْ أَكَلَتْ بَجِيلَةُ يومَ لاَقَتْ   فَوَارِسَ مَالك أَكْلاً وَبِيلاً
والوبيل أيضاً: العصا الضخمة قال:
لوَ ٱصْبَحَ في يُمْنى يَدَيَّ زِمامُها   وفيِ كَفِّيَ الاُّخْرى وَبِيلٌ تُحاذِرُهْ
وكذلك المَوْبِل بكسر الباء، والمَوْبِلة أيضاً: الحُزْمة من الحطب، وكذلك الوَبِيل، قال طَرفة:
عَقِيـلَةُ شَيْـخ كالوَبيـلِ يَلَنْـدَد   
قوله تعالى: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقونَ العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم. وكذا قراءة عبد الله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: واللَّهِ ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و «يَوْماً» مفعول بـ«ـتَتَّقُونَ» على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كَفَرْتُمْ». وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: { كَفَرْتُمْ } والابتداء «يَوْماً» يذهب إلى أن اليوم مفعول «يجعل» والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيباً في يوم. قال ابن الأنباري: وهذا لا يصلح لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدّة هوله. المهدويّ: والضمير في «يجعل» يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف كأنه قال: يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً. ٱبن الأنباريّ: ومنهم من نصب اليوم بـ «ـكفرتم» وهذا قبيح لأن اليوم إذا عُلّق بـ «ـكفرتم» ٱحتاج إلى صفة أي كفرتم بيوم.