الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } * { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } * { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً }

قوله تعالى: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نِكْل، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل سمّي نِكلاً، لأنه يُنَكَّل به. قال الشعبيّ: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا ٱسْتَفَلت بهم. وقال الكلبيّ: الأنكال: الأغلال، والأوّل أعرف في اللغة ومنه قول الخنساء:
دَعاكَ فَقَطَّعْتَ أنْكَالَه   وقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لا تُقْطَعُ
وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد قاله مقاتل. وقد جاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يحبّ النَّكَل على النَّكَل» - بالتحريك، قاله الجوهريّ - قيل: وما النَّكَل؟ قال: «الرجل القويّ المجَّرب، على الفرس القويّ المجَّرب " ذكره الماورديّ. قال: ومن ذلك سمي القيد نِكْلاً لقوته، وكذلك الغُلّ، وكل عذاب قوي فٱشتد. والجحيم النار المؤجَّجة. { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغِسلِين والزُّقوم والضّريع قاله ٱبن عباس. وعنه أيضاً: أنه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضّريع كما قال:لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [الغاشية: 6] وهو شوك كالعَوْسَج. وقال مجاهد: هو الزَّقوم، كما قال:إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } [الدخان: 44]. والمعنى واحد. وقال حُمْران بن أَعْيَن: " قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً. وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } فصعق " وقال خُلَيد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائماً، فأتيته بطعام فعرضتْ له هذه الآية { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } { وَطَعَاماً } فقال: ٱرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ٱرفعوه. ومثله في الثالثة فٱنطلق ٱبنه إلى ثابت البُنَاني ويزيدَ الضَّبيّ ويحيى البكّاء فحدّثهم، فجاؤوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سَوِيق. والغُّصَة: الشَّجا، وهو ما يَنَشب في الحلق من عَظْم أو غيره، وجمعها غُصَصٌ. والغَصَصُ بالفتح مصدر قولك: غَصِصْتَ يا رجل تَغَصّ، فأنت غاصّ بالطعام وغصّان، وأغصصته أنا، والمنزل غاصّ بالقوم أي ممتليء بهم. قوله تعالى: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } أي تتحرّك وتضطرب بمن عليها. وٱنتصب «يوم» على الظرف أي ينكل بهم ويعذّبون { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ }.وقيل: بنزع الخافض يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل «ذَرْنِي» أي وذرني والمكذبين يوم ترجُف الأرض والجبال. { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع ـ قال حسان:
عَرَفْتُ دِيار زَيْنَبَ بالْكَثِيبِ   كَخَطِّ الْوَحْيِ في الْوَرَقِ الْقَشِيبِ
والمَهِيل: الذي يمرّ تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبيّ: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زلّ من تحتها، وإذا أخذت أسفله ٱنهال. وقال ٱبن عباس: «مَهِيلاً» أي رملاً سائلاً متناثراً. وأصله مَهْيول وهو مَفْعول من قولك: هِلْت عليه التراب أَهِيله هيلاً: إذا صببته. يقال: مَهِيل ومَهْيول، ومَكِيل ومَكْيول، ومَدِين ومَدْيون، ومَعِين ومَعْيون قال الشاعر:
قد كان قَوْمُك يَحْسَبونَكَ سَيِّداً   وإِخَالُ أَنَّكَ سَيِّدٌ مَعْيُونُ
وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم " أنهم شكوا إليه الجدُوبة فقال: «أَتكيلون أم تَهِيلون» قالوا: نَهِيل. قال «كِيلوا طعامكم يُبَارَكْ لكم فيه» " وأَهَلْت الدقيق لغة في هِلْت فهو مُهال ومَهِيل. وإنما حذفت الواو، لأن الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.