الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } * { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } * { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }

فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قال الأخفش سعيد: «المُزَّمِّل» أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي وكذلك «المدثّر». وقرأ أُبيّ بن كعب على الأصل «الْمُتَزَمِّل»و «المتدثّر». وسعيد: «الْمُزَّمِّلْ». وفي أصل «المزَّمِّل» قولان: أحدهما أنه المحتمل يقال: زَمَل الشيء إذا حمله، ومنه الزَّاملة لأنها تحمل القُمَاش. الثاني أن المزَّمِّل هو المتلفِّف يقال: تزمل وتدثَّر بثوبه إذا تغطى. وزمَّل غيره إذا غطّاه، وكل شيء لُفِّف فقد زمل ودثر قال ٱمرؤ القيس:
كبِيرُ أنـاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّـلٍ   
الثانية: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } هذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الأوّل قول عكرمة { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } بالنبوّة والملتزم للرسالة. وعنه أيضاً: يا أيها الذي زُمِّلَ هذا الأمر أي حُمِّله ثم فتر، وكان يقرأ «يَأَيُّهَا المُزَمِّلُ» بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك «المُدَثِّر» والمعنى المزمِّل نفسه والمدثِّر نفسه، أو الذي زَمَّله غيره. الثاني «يَا أيُّها الْمُزَّمِّل» بالقرآن، قاله ٱبن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قاله قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملاً بقطيفةٍ. قالت عائشة: بِمرطٍ طوله أربعة عشر ذراعاً، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي، واللَّهِ ما كان خَزًّا ولا قَزًّا ولا مِرعِزاءَ ولا إِبرِيسما ولا صُوفاً، كان سَداه شَعراً، ولُحمته وَبَراً، ذكره الثعلبيّ. قلت: وهذا القول من عائشة يدلّ على أن السورة مَدَنِيّة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَبْن بها إلاّ في المدينة. وما ذُكر من أنها مكية لا يصحّ. والله أعلم. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قولٍ فيه، فٱشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } و { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }. وقيل: كان هذا في ٱبتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: " زمّلوني دثروني " روى معناه عن ٱبن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمّل والمدّثر في أوّل الأمر لأنه لم يكن بعد ٱدّثر شيئاً من تبليغ الرسالة. قال ٱبن العربي: وٱختلف في تأويل «يَٰأَيُّهَا الْمُزَّمِّل» فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفّف في ثيابه أو في قطيفته قم قاله إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوّة قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشدّدة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما هو بلفظ الفاعل فهو باطل. قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرىء بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمّل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدّمنا أنه لا يحتاج إليه.

السابقالتالي
2 3 4 5