الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } * { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } * { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }

قوله تعالى: { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ } هذا من قول الجنّ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا { فَوَجَدْنَاهَا } قد { مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } أي حَفَظة، يعني الملائكة. والحَرَس: جمع حارس { وَشُهُباً } جمع شهاب، وهو ٱنقضاض الكواكب المحرقة لهم عن ٱستراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة «الحجر» و«الصافات». و«وَجَدَ» يجوز أن يقدّر متعدّياً إلى مفعولين، فالأوّل الهاء والألف، و«مُلِئَتْ» في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدّى إلى مفعول واحد ويكون «مُلِئَتْ» في موضع الحال على إضمار قد. و«حَرَساً» نصب على المفعول الثاني بـ«ـمُلِئَتْ». و«شَدِيداً» من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا. ووحد الشَّديد على لفظ الحرس وهو كما يقال: السَّلَف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السَّلَف أسلاف وجمع الحرس أحراس قال:
«تجـاوزتُ أحراساً وأهـوالَ مَعْشَرٍ»   
ويجوز أن يكون «حَرَساً» مصدراً على معنى حُرِست حراسةً شديدة. قوله تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً }. «مِنْهَا» أي من السماء، و«مَقَاعِدَ»: مواضع يُقْعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء يعني أن مَرَدة الجنّ كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهِنة على ما تقدّم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشُّهب المحرقة، فقالت الجنّ حينئذ: { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني بالشهاب: الكوكب المحرِق وقد تقدّم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. وٱختلف السَّلَف هل كانت الشياطين تُقذَف قبل المبعث، أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسِمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحُرست بالملائكة والشهب. قلت: ورواه عطية العوفي عن ٱبن عباس ذكره البيهقي. وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نُبِّىء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُنعت الشياطين ورُموا بالشُّهب. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تُحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، ورُميت الشياطين بالشُّهب، ومُنعت عن الدنوّ من السماء. وقال نافع بن جُبير: كانت الشياطين في الفترة تَسمع فلا تُرمَى، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رُميت بالشُّهب. ونحوه عن أبيّ بن كعب قال: لم يُرمَ بنجم منذ رُفع عيسى حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها. وقيل كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله وهو معنى قوله تعالى: «مُلِئَتْ» أي زيد في حَرَسها وقال أَوْس بن حَجَر وهو جاهليّ:

السابقالتالي
2 3