الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }

قوله تعالىٰ: { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون { ٱلْحَقِّ } نعته، والخبر { يَوْمَئِذٍ }. ويجوز نصب { ٱلْحَقِّ } على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضاً والضحاكِ والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذِكر الوزن ضربُ مثلٍ كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وَزْنٌ. قال الزجاج: هذا سائغٌ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيرِيّ: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الدِّين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطينُ والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأُمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً. قال ابن فُورَك: وقَدْ أنكرت المعتزلة الميزان بناءً منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلِّمين من يقول: إن الله تعالىٰ يقلِب الأعراض أجساماً فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقِّق ذلك، وهو أنه روي: " أن ميزان بعضِ بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رِق مكتوب فيه «لا إله إلاَّ الله» فيثقل " فقد عُلِمَ أن ذلك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يُوضع في كِفتيه من الصحف التي فيها الأعمال. وفي صحيح مسلم عن صَفْوان بن مُحْرِز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النَّجْوى؟ قال سمعته يقول: " يُدْنَى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه فيُقَرِّره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي ربِّ أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيُعْطَى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله " فقوله: " فيعطى صحيفة حسناته " دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن. وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُصاح برجل من أُمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سِجِلاًّ كل سِجِل مدّ البصر ثم يقول الله تبارك وتعالىٰ هل تنكر من هذا شيئاً فيقول لا يا ربّ فيقول أظَلَمْتك كَتَبتِي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البِطاقة مع هذه السِّجِلاّت فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كِفة والبطاقة في كِفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة "

السابقالتالي
2 3