الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ } هذا أمرٌ بالدعاء وتعبُّد به. ثم قرن جلّ وعز بالأمر صفاتٍ تحسُنُ معه، وهي الخشوع والاستكانة والتضرع. ومعنى «خُفْيَةً» أي سراً في النفس ليبعد عن الرياء وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبراً عنه:إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3]. ونحوه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " خيرُ الذكر الخفيُّ وخيرُ الرزق ما يكفي " والشريعة مقرّرة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر. وقد تقدّم هذا المعنى في «البقرة». قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }. وذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال:إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3]. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذا على أن إخفاء «آمين» أولى من الجهر بها لأنه دعاء. وقد مضى القول فيه في «الفاتحة». وروى مسلم عن أبي موسى قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر ـ وفي رواية في غزاة ـ فجعل الناس يجهرون بالتكبير ـ وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثَنِيّة قال: لا إلٰه إلا الله ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس ٱرْبَعُوا على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصَمّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم " الحديث. الثانية: وٱختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء فكرهه طائفة منهم جُبير بن مُطْعِم وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير. ورأى شُريح رجلاً رافعاً يديه فقال: من تتناول بهما، لا أمّ لكٰ وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قطعها الله. وٱختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بأصبعه السبابة. ويقولون: ذلك الإخلاص. وكان قتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه. وكره رفع الأيدي عطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم. وروي جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكره البخاريّ. قال أبو موسى الأشعري: " دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه " ومثله عن أنس. وقال ابن عمر: " رفع النبيّ صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» " وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بَدْر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادًّا يديه، فجعل يهتف بربه وذكر الحديث.

السابقالتالي
2 3