الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } بيّن أنه المنفرد بقدرة الإيجاد، فهو الذي يجب أن يعبد. وأصل «ستة» سدسة، فأرادوا إدغام الدال في السين فٱلتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليهما. وإن شئت قلت: أبدل من إحدى السينين تاء وأدغم في الدال لأنك تقول في تصغيرها: سديسة، وفي الجمع أسداس، والجمع والتصغير يردّان الأسماء إلى أصولها. ويقولون: جاء فلان سادساً وسادتا وساتا فمن قال: سادتا أبدل من السين تاء. واليوم: من طلوع الشمس إلى غروبها. فإن لم يكن شمس فلا يوم قاله القشيرِيّ. وقال: ومعنى «فِي ستَّةِ أَيَّامٍ» أي من أيام الآخرة، كل يوم ألف سنة لتفخيم خلق السموات والأرض. وقيل: من أيام الدنيا. قال مجاهد وغيره: أوّلها الأحد وآخرها الجمعة. وذكر هذه المدّة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون. ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئاً بعد شيء. وهذا عند من يقول: خلق الملائكة قبل خلق السموات والأرض. وحكمة أخرى ـ خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلاً. وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب لأن لكل شيء عنده أجلاً. وهذا كقوله:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } [قۤ: 38 و39]. بعد أن قال: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً }. قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدّمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيّز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى ٱختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأوّل رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافّة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم ـ يعني في اللغة ـ والكَيْف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها.

السابقالتالي
2 3 4