الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

فيه أربع مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { يَابَنِيۤ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة لأنه قال: { يُوَٰرِى سَوْءَاتِكُمْ }. وقال قوم: إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط. قلت: القول الأوّل أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة فبين أنه سبحانه وتعالىٰ جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالتستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعْيُن الناس. وٱختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ٱبن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عَبْلة والطبري لقوله تعالىٰ: { لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } ، { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } ، { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ }. وفي البخاريّ " عن أنس: «فأجرىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم في زُقاق خيبر ـ وفيه ـ ثم حَسَر الإزار عن فخذه حتى أني أنظر إلى بياض فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم» " وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعيّ: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعيّ في السرة قولين. وحجة مالك " قوله عليه السلام لجَرْهَدٍ: «غطِّ فخذك فإن الفخذ عورة» " خرجه البخاريّ تعليقاً وقال: حديث أنس أَسْنَدُ، وحديث جرهدٍ أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جَرْهَدٍ هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبَّل سُرة الحسن بن عليّ وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبَّلها أبو هريرة، ولا مكّنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها " ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أمُّ الولد فقال الأثْرَم: سمعته ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يسأل عن أم الولد كيف تصلِّي؟ فقال: تغطِّي رأسها وقدميها لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأَمَة فالعورة منها ما تحت ثديها. ولها أن تبدي رأسها ومِعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل. وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول: لا تَشبَّهن بالحرائر.

السابقالتالي
2 3