الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

فيه مسألتان: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } قيل: إن هذا نزل في الصلاة، رُوي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزُّهْرِيّ وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رَباح وسعيد بن المسيِّب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّىٰ فيقول بعضهم لبعض بمكة:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26]. فأنزل الله جل وعز جواباً لهم { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }. وقيل: إنها نزلت في الخطبة قاله سعيد بن جُبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دِينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مُخَيْمَرة ومسلم بن يَسَار وشَهْر بن حَوْشَبْ وعبد الله بن المبارك. وهذا ضعيف لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها قاله ابن العربيّ. النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة. وذكر الطبريّ عن سعيد بن جبير أيضاً أن هذا في الإنصات يوم الأضْحَىٰ ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يَجْهِر به الإمام فهو عامّ. وهو الصحيح لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السُّنّة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليلٌ على اختصاص شيء. وقال الزجاج: يجوز أن يكون «فَٱسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» ٱعملوا بما فيه ولا تجاوِزوه. والإنصات السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة. أنْصَت يُنصت إنصاتاً وَنَصت أيضاً قال الشاعر:
قال الإمامُ عليكم أمْرَ سيّدكم   فلم نُخالف وأنصتنا كما قالا
ويُقال: أنصتوه وأنصتوا له: قال الشاعر:
إذا قالتْ حَذامِ فأنْصِتوها   فإنّ القولَ ما قالت حَذامِ
وقال بعضهم في قوله «فَاسْتَمِعُوا لهُ وَأَنْصِتُوا»: كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصاً لِيَعيَه عنه أصحابه. قلت: هذا فيه بعدٌ، والصحيح القول بالعموم لقوله: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } والتخصيص يحتاج إلى دليل. وقال عبد الجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تَعَنُّتاً وعناداً على ما حكاه الله عنهم: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }. فأمر الله المسلمين حالة أداء الوَحْي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجنَّ على ذلك فقال:وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } [الأحقاف: 29] الآية. وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصَّلاة أجابه مَن وراءَه إذا قال: بسم الله الرّحمٰن الرّحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضيَ فاتحة الكتاب والسُّورة. فلبِث بذلك ما شاء الله أن يلبث فنزل: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فأنْصَتُوا. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات تركُ الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصَّلاة فيسألهم كم صلّيتم، كم بَقِي فأنزل الله تعالىٰ: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }. وعن مجاهد أيضاً: كانوا يتكلمون في الصَّلاة بحاجتهم فنزل قوله تعالىٰ: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام. ويأتي في «الجمعة» حكم الخطبة، إن شاء الله تعالىٰ.