الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } * { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }

فيـه مسألتان: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } يريد الشرك والمعاصي. { إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ } هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة وقراءة أهل المدينة وأهلِ الكوفة «طَائِفٌ». وروي عن سعيد بن جبير «طَيّفٌ» بتشديد الياء. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا «طَيْفٌ» بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يَطِيفُ. قال الكسائيّ: هو مخّفف من «طَيِّف» مثل مَيْتٌ ومَيِّتٌ. قال النحاس: ومعنىٰ «طَيْف» في اللغة ما يُتخيلَّ في القلب أو يُرَىٰ في النوم وكذا معنىٰ طائف. وقال أبو حاتم: سألت الأصْمَعيّ عن طَيّف فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو بمصدر، ولكن يكون بمعنىٰ طائف. والمعنىٰ: إن الذين ٱتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية وقيل: الطَّيْفُ والطّائِفُ معنيان مختلفان. فالأول ـ التخيّل. والثاني ـ الشيطان نفسه. فالأول مصدر طاف الخيال يَطُوف طَيْفاً ولم يقولوا من هذا طائف في اسم الفاعل. قال السهيلِيّ: لأنه تخَيُّل لا حقيقة له. فأما قوله:فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [القلم: 19] فلا يقال فيه: طيْفٌ لأنه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، وطاف الخيال يَطيف. وقال حسان:
فَدَعْ هذا ولكن مَن لِطَيْف   يُؤَرّقُني إذا ذهب العِشَاء
مجاهد: الطّيْف الغضب. ويسمىٰ الجنون والغضب والوسوسة طَيْفاً لأنه لَمَّةٌ من الشيطان تُشَبَّه بَلّمة الخيال. { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } أي منتهون. وقيل: فإذا هم على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير: «تَذَّكَّرُوا» بتشديد الذال. ولا وجه له في العربية ذكره النحاس. الثانية ـ قال عصام بن المُصْطَلِق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن عليّ عليهما السلام، فأعجبني سَمْتُه وحُسن رُوائه فأثار منِّي الحسد ما كان يُجِنّه صدري لأبيه من البُغْض فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه فنظر إليّ نظرة عاطفٍ رَؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } فقرأ إلى قوله: { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ثم قال لي: خفِّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا أعنّاك، ولو استَرْفَدْتَنَا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم فيَّ الندم على ما فرط منِّي فقال: { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } أمن أهل الشأم أنت؟ قلت نعم. فقال:
شِنْشِنَـةٌ أعْرِفُـها مـن أَخْـزَمِ   
حَيَّاك الله وبيَّاك، وعافاك، وآداك انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله. قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَت، وودِدت أنها ساخت بي، ثم تسلّلْتُ منه لِوَاذاً، وما على وجه الأرض أحبُّ إليّ منه ومن أبيه.

السابقالتالي
2