الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

فيه مسألتان: الأولىٰ ـ لما نزل قوله تعالى: { خُذِ ٱلْعَفْوَ } قال عليه السلام: " كيف يا رب والغضب " ؟ فنزلت: { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ } ونزغ الشيطان: وساوسه. وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنُّزّاغ والنُّغّاز، وهم المُوَرِّشُون. الزجاج: النَّزْغ أدْنىٰ حركة تكون، ومن الشيطان أدْنىٰ وَسْوَسَة. قال سعيد بن المسيب: شهدت عثمان وعلياً وكان بينهما نَزْغٌ من الشيطان فما أبقىٰ واحدٌ منهما لصاحبه شيئاً، ثم لم يَبْرَحَا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه. ومعنىٰ { يَنَزَغَنَّكَ }: يصيبنّك ويعرض لك عند الغضب وسوسةٌ بما لا يحل. { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } أي ٱطلب النجاة من ذلك بالله. فأمر تعالىٰ أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به ولله المثل الأعلىٰ. فلا يستعاذ من الكلاب إلاّ بربِّ الكلاب. وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأردّه جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفّه عنك. الثانية ـ النّغْزُ والنَّزْغ والهَمْز والوَسْوَسَة سواء قال الله تعالىٰ:وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } [المؤمنون: 97] وقال:مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } [الناس: 4]. وأصل النزغ الفساد يقال: نَزَغ بيننا أي أفسد. ومنه قوله:نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100] أي أفسد. وقيل: النزغ الإغواء والإغراء والمعنى متقارب. قلت: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ " وفيه عن عبد الله قال: " سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: «تلك مَحْضُ الإيمان» " وفي حديث أبي هريرة: " ذلك صَرِيح الإيمان " والصريح الخالص. وهذا ليس على ظاهره إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالىٰ أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنّه قال جَزَعُكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمَّى الوسوسة إيماناً لما كان دفعها والإعراض عنها والردّ لها وعدم قبولها والجزعُ منها صادراً عن الإيمان. وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان. وأما الأمر بالانتهاء فَعَن الركون إليها والإلتفات نحوها. فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه ونفعه وانتفع به. وأما من خالجته الشبهة وَغَلَب عليه الحِس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بُدّ من مشافهته بالدليل العقليّ

السابقالتالي
2