فيه ثلاث مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } الإغواء إيقاعُ الغيّ في القلب أي فبما أوقعت في قلبي من الغيّ والعِناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل، بل هو كفر عناد وٱستكبار. وقد تقدّم في «البقرة». قيل: معنىٰ الكلام القسَمُ، أي فبإغوائك إياي لأقعدنّ لهم على صراطك، أو في صراطك فحذف. دليل هذا القول قوله في صۤ:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 82] فكأن إبليسَ أعظَم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاماً لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنىٰ اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنىٰ مع، والمعنىٰ فمع إغوائك إياي. وقيل: هو ٱستفهام، كأنه سأل بأيّ شيء أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فَبِم أغويتني؟. وقيل: المعنىٰ فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالىٰ:{ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [مريم: 59] أي هلاكاً. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد قاله ابن عباس. وقيل: خيّبتني من رحمتك ومنه قول الشاعر:
ومن يَغْولا يعدم على الغي لائماً
أي من يَخِب. وقال ابن الأعرابيّ: يقال غَوَىٰ الرجل يغَوِي غَيّاً إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحَد معاني قوله تعالىٰ:{ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 124] أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوِي الفصيل إذا لم يدِرّ لبن أمه. الثانية ـ مذهب أهل السنة أن الله تعالىٰ أضلّه وخلق فيه الكفر، ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالىٰ. وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالىٰ. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينَّه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليسُ، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالىٰ الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلاً للخطأ فما تصنعون في نبيّ مكرم معصومٍ. وهو نوح عليه السلام حيث قال لقومه:{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [هود: 34] وقد روي أن طاوساً جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهماً بالقَدر، وكان من الفقهاء الكبار فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تُقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه ٰ فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: ربِّ بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أُغْوِي نفسي. الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي بالصّدّ عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يُخَيَّبوا كما خُيِّب حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في «أَغْوَيْتَنِي». والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة، و «صِرَاطَكَ» منصوب على حذف «علىٰ» أو «في» من قوله: «صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» كما حكىٰ سيبويه «ضرب زيد الظهر والبطن».