الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ }

قوله تعالىٰ: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } مفعولان، أحدهما حذفت منه مِن وأنشد سيبوية:
مِنّا الذي ٱخُتِير الرجالَ سَماحةً   وبِرَّاً إذا هَبّ الرِّياح الزَّعازِع
وقال الراعي يمدح رجلاً:
ٱخترتُك الناسَ إذ رَثّت خلائقُهُم   وٱختلّ مَن كان يُرْجَىٰ عنده السُّولُ
يريد: اخترتك من الناس. وأصل ٱختار ٱختير فلما تحرّكت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً، نحو قال وباع. قوله تعالىٰ: { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } أي ماتوا. والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة. ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا. قوله تعالىٰ: { قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } أي أمَتّهم كما قال عز وجل:إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } [النساء: 176]. «وإياي» عطف. والمعنى: لو شئت أمتَّنَا من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني. أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا يحيىٰ بن سعيد القَطّان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد عن عليّ رضي الله عنه قال: ٱنطلق موسىٰ وهارون صلىٰ الله عليهما وٱنطلق شَبّر وشَبير ـ هما ٱبنا هارون ـ فانتهوا إلى جبل فيه سرير، فقام عليه هارون فقُبض روحه. فرجع موسىٰ إلى قومه، فقالوا: أنت قتلته، حسدتنا على لِينه وعلى خُلُقه، أو كلمة نحوها. الشك من سفيان، فقال: كيف أقتله ومعي ٱبناه! قال: فاختاروا من شئتم فاختاروا من كل سِبْط عشرة. قال: فذلك قوله: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَـٰتِنَا } فانتهوا إليه فقالوا: مَن قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني أحد ولكن الله توفّاني. قالوا: يا موسىٰ، ما تُعْصَى. فأخذتهم الرجفة، فجعلوا يتردّدون يميناً وشمالاً، ويقول: { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ }. قال: فدعا الله فأحياهم وجعلهم أنبياء كلَّهم. وقيل: أخذتهم الرجفة لقولهم: أرنا الله جهرة كما قال الله تعالىٰ:وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [البقرة: 55]. على ما تقدّم بيانه في «البقرة». وقال ٱبن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينَهْوا من عبد العجل، ولم يرضَوْا عبادته. وقيل: هؤلاء السبعون غيرُ من قالوا أرنا الله جهرة. وقال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تَبِين مفاصلُهم، وخاف موسىٰ عليهم الموت. وقد تقدّم في «البقرة» عن وهب أنهم ماتوا يوماً وليلة. وقيل غير هذا في معنىٰ سبب أخذهم بالرجفة. والله أعلم بصحة ذلك. ومقصود الاستفهام في قوله: «أَتُهْلِكُنَا» الجَحْد أي لست تفعل ذلك. وهو كثير في كلام العرب. وإذا كان نفياً كان بمعنىٰ الإيجاب كما قال:
ألستمْ خيرَ مَنْ ركب المطايا   وأنْدىٰ العالمين بُطون راحِ
وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا وأضاف إلى نفسه.

السابقالتالي
2