الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }

قوله تعالى: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } لم ينصرف «غَضْبَانَ» لأن مؤنّثه غَضْبَى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. و «أَسِفاً» شديد الغضب. قال أبو الدَّرداء: الأسف منزلةٌ وراء الغضب أشد من ذلك. وهو أسِف وأسِيف وأسْفان وأَسُوف. والأسيف أيضاً الحزِين. ابن عباس والسُّدِّي: رجع حزيناً من صنيع قومه. وقال الطبرِيّ: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فُتِنُوا بالعجل فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربيّ: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضباً، لكنه كان سريع الفَيْئة فتِلك بتلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: كان موسى عليه السلام إذا غَضِب طلع الدُّخَان من قَلَنْسُوَتِه، ورفع شعرُ بدنه جُبَّتَه. وذلك أن الغضب جَمْرة تتوقّد في القلب. ولأجله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ غَضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبُه ٱغتسل: فيُخْمِدها اضطجاعُه ويطفئها اغتساله. وسُرْعةُ غضبه كان سبباً لصَكّه مَلَكَ الموت ففقأ عينَه. وقد تقدم في «المائدة» ما للعلماء في هذا. وقال الترمذِيّ الحكيم: وإنما ٱستجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مدّ إليه يدا بأذًى فقد عَظُم الخطب فيه. ألا ترى أنه ٱحتجّ عليه فقال: من أين تنزِع روحي؟ أمن فمِي وقد ناجيت به ربي! أَمْ مِن سمعي وقد سمعت به كلام رَبِّي! أم مِن يدي وقد قبضت منه الألواح! أم مِن قدمي وقد قمتُ بين يديه أُكلمه بالطُّور ٰ أمْ مِن عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربّه مُفْحَماً. وفي مُصَنّف أبي داود عن أبي ذرٍّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: " إذا غَضِب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فلْيضطجع " وروي أيضاً عن أبي وائل القاصّ قال: دخلنا على عروة بن محمد السّعدِيّ فكلمه رجل فأغضبه فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدّثني أبي عن جدّي عطيّة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ الغضب من الشيطان وإنّ الشيطان خُلق من النار وإنما تُطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ". قوله تعالى: { بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ } ذَمٌّ منه لهم أي بئس العملُ عمِلتم بعدي. يقال: خَلَفَه بما يكره. ويقال في الخير أيضاً. يقال منه: خَلَفَه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه. { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي سبقتموه. والعجلة: التقدّم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عَمَل الشيء في أوّل أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة.

السابقالتالي
2 3 4