الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ }

قوله تعالىٰ: { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }. فيه ثلاث مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } ذكر أن مما كرّم الله به موسىٰ صلى الله عليه وسلم هذا. فكان وعده المناجاة إكراماً له. { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } قال آبن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة فلما صامه أنكر خُلُوف فَمِه فٱستاك. قيل: بعود خَرْنُوب فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسِّواك. فزيد عليه عشرُ ليال من ذي الحجة. وقيل: إن الله تعالىٰ أَوْحىٰ إليه لما ٱستاك: «يا موسىٰ لا أكلمك حتى يعود فُوك إلى ما كان عليه قبلُ، أما علمت أن رائحة الصائم أحبّ إليّ من ريح المسك». وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالىٰ لموسىٰ صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فَدَىٰ إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله: { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين فيكون ذلك من البداء. قيل: ليس كذلك فقد قال: «وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ» والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف قال أربعين في قولٍ مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهراً متتابعاً وعشراً. وكل ذلك أربعون كما قال الشاعر:
عشـر وأربـع...   
يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب. الثانية ـ قال علماؤنا: دلّت هذه الآية على أن ضَرْب الأجل للمواعَدة سُنَّة ماضية، ومعنىٰ قديم أسسه الله تعالىٰ في القضايا، وحكم به للأمم، وعرّفهم به مقادير التأنِّي في الأعمال. وأوّل أجل ضربه الله تعالىٰ الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقاتوَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [قۤ: 38]. وقد بينا معناه فيما تقدّم في هذه السورة من قوله:إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف: 54]. قال ٱبن العربيّ: فإذا ضُرِب الأجلُ لمعنىً يحاول فيه تحصيلُ المؤجّل فجاء الأجل ولم يتيّسر زيد فيه تبصرةً ومعذرةً. وقد بيّن الله تعالىٰ ذلك لموسىٰ عليه السلام فضرب له أجلاً ثلاثين ثم زاده عشراً تتمة أربعين. وأبطأ موسىٰ عليه السلام في هذه العشر على قومه فما عقلوا جواز التأنِّي والتأخر حتى قالوا: إن موسى ضَلَّ أو نَسيَ. ونكثوا عهده وبدّلوا بعده، وعبدوا إلهاً غير الله.

السابقالتالي
2 3