الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

فيه مسألتان: الأُولى ـ قوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ } أي الخِصْب والسَّعة. { قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } أي أعْطيناها باستحقاق. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي قَحْط ومرض، وهي المسألة: ـ الثانية ـ { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ } أي يتشاءموا به. نظيرهوَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [النساء: 78]. والأصل «يتطيروا» أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة: «تطيّروا» على أنه فعل ماض. والأصل في هذا من الطِّيرةِ وزَجْر الطَّير، ثم كثُرَ استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم: تَطَيَّر. وكانت العرب تتيمّن بالسّانح: وهو الذي يأتي من ناحية اليمين. وتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من ناحية الشّمال. وكانوا يتطيرون أيضاً بصوت الغراب ويتأوّلونه البَيْن. وكانوا يستدِلون بمجاوبات الطيور بعضِها بعضاً على أُمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظِّباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا بَرَحت: «مَنْ لي بالسّانح بعد البارح». إلا أنّ أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير فسمَّوْا الجميع تَطَيُّراً من هذا الوجه. وتطيّر الأعاجمُ إذا رأُوا صبِيّاً يذهب به إلى المُعَلِّم بالغداة، ويتيمَّنون برؤية صبيّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السَّقاء على ظهره قِربة مملوءةٌ مشدودة، ويتيمّنون برؤية فارغ السِّقاء مفتوحة قربته ويتشاءمون بالحَمّال المثقّل بالحِمْل، والدابة المُوقرة، ويتيمنون بالحَمّال الذي وضع حِمله، وبالدابة يُحَطّ عنها ثِقْلُها. فجاء الإسلام بالنَّهْي عن التّطيّر والتشاؤم بما يُسمع من صوتِ طائرٍ ما كان، وعلى أيّ حال كان فقال عليه السلام: " أقِرُّوا الطير على مَكِناتها " وذلك إن كثيراً من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وَكْرها فنفّرها فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله: " أَقِرُّوا الطير على مكناتها " هكذا في الحديث. وأهل العربية يقولون: «وُكُناتها» قال ٱمرؤ القيس:
وقد أغْتَـدِي والطّيْر في وُكناتـها   
والوُكْنة: ٱسم لكلّ وكْر وعُشّ. والوكن: موضع الطائر الذي يبيض فيه ويُفْرِخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر. ويقال: وَكَن الطائر يَكِن وكُوناً إذا حضن بيضه. وكان أيضاً من العرب من لا يرى التطيّر شيئاً، ويمدحون من كذّب به. قال المُرَقَّش:
ولقد غَدَوْتُ وكنتُ لا   أغدُو على وَاقٍ وحاتم
فإذا الأشائِمُ كالأيا   مِنِ والأيامِنُ كالأشائم
وقال عكرمة: كنت عند ٱبن عباس فمرّ طائر يصيح فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ٱبن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. قال علماؤنا: وأما أقوال الطير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلاً عن مستقبل فتُخبِر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك، فٱلتحق التطيّر بجملة الباطل.

السابقالتالي
2