الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ }

قوله تعالىٰ: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه. وقد تقدّم معنى الخلق في غير موضع. «ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ» أي خلقناكم نُطفاً ثم صوّرناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة ٱسجدوا لآدم. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى خلقنا آدم ثم صوّرناكم في ظهره. وقال الأخفش: «ثم» بمعنى الواو. وقيل: المعنى «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» يعني آدم عليه السَّلام، ثم قلنا للملائكة ٱسجدوا لآدم، ثم صورناكم على التقديم والتأخير. وقيل: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» يعني آدم ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر. «ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ» راجع إليه أيضاً. كما يُقال: نحن قتلناكم أي قتلنا سيدكم. { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير عن ابن عباس أيضاً. وقيل: المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحوّاء فآدم من التراب وحوّاء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك. فالمعنى: ولقد خلقنا أبوَيْكم ثم صوّرناهما قاله الحسن. وقيل: المعنى خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وٱبن أبي نجيح. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال. يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صوّرهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد. ويقوّي هذاوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الأعراف: 172]. والحديث. " أنه أخرجهم أمثال الذَّرِّ فأخذ عليهم الميثاق " وقيل: «ثم» للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، ثم صَوّرناكم أي في الأرحام. قال النحاس: هذا صحيح عن ابن عباس. قلت: كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يَعْضُده التنزيل قال الله تعالىٰ:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] يعني آدم. وقال:وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1]. ثم قال: «جَعَلْنَاهُ» أي جعلنا نسله وذريتهنُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [ المؤمنون: 13] الآية. فآدم خُلِق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صُوِّروا في أرحام الأُمهات بعد أن خُلقوا فيها وفي أصلاب الآباء. وقد تقدّم في أوّل سورة «الأنعام» أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتُرْبَة فتأمله. وقال هنا: { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } وقال في آخر الحشر:هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24]. فذكر التصوير بعد البَرء. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالىٰ. وقيل: معنى «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» أي خلقنا الأرواح أوّلاً ثم صوّرنا الأشباح آخراً. قوله تعالىٰ: { إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } استثناء من غير الجنس. وقيل: من الجنس. وقد اختلف العلماء: هل كان من الملائكة أم لا كما سبق بيانه في «البقرة».