الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال ٱبن عباس ومجاهد: على خُلُقٍ، على دينٍ عظيم من الأديان، ليس دين أحبّ إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خُلُقه كان القرآن. وقال عليّ رضي الله عنه وعَطِيّة: هو أدب القرآن. وقيل: هو رِفْقه بأمّته وإكرامُه إيّاهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهى عنه مما نهى الله عنه. وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماورديّ: وهو الظاهر. وحقيقة الخُلُق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسانُ نفسَه من الأدب يُسَمَّى خُلُقاً لأنه يصير كالخِلْقة فيه. وأما ما طُبع عليه من الأدب فهو الخِيم بالكسر: السَّجِيَّة والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخِيم: اسم جبل. فيكون الخُلُق الطبعَ المتكلَّف. والخِيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذُو الفضول ضَنَّ على المَوْ   لَى وعادت لخِيمها الأخلاقُ
أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها. قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصحّ الأقوال. وسئلت أيضاً عن خُلُقه عليه السلام فقرأت { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خُلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لَبَّيْك، ولذلك قال الله تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }. ولم يُذكر خُلُقٌ محمود إلا وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم منه الحظّ الأوفر. وقال الجُنَيْد: سُمِّيَ خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سُمِّيَ خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه يدلّ عليه قوله عليه السلام: " إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق " وقيل: لأنه ٱمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى:خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأعراف:199] " وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «أدّبني ربي تأديباً حسناً إذ قال: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } فلما قبلت ذلك منه قال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } ". الثانية: روى الترمذِيّ عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ٱتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها وخالق الناس بِخُلُق حَسَن " قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدَّرْدَاء: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " ماشيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حَسَن وإن الله تعالى لَيُبْغِض الفاحش البذيء " قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حُسْنِ الخُلُق وإن صاحب حُسنِ الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم "

السابقالتالي
2