الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ } هذه عبارة عن الحشر. و«فُرَادَى» في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألفَ تأنيث. وقرأ أبو حَيْوة «فراداً» بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فُرَادٌ. وحكى أحمد بن يحيـى «فُرَادَ» بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع و«فُرادى» جمع فُرْدان كسُكارى جمع سكران، وكُسالى جمع كسلان. وقيل: واحده «فَرْد» بجزم الراء، «وفرِد» بكسرها، و«فرد» بفتحها، و«فرِيد». والمعنى: جئتمونا واحداً واحداً، كل واحد منكم منفرداً بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغَيّ، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج «فَرْدَى» مثل سكرى وكسلى بغير ألف. { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي منفردين كما خُلقتم. وقيل: عُراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حُفاة غُرْلاً بُهْماً ليس معهم شيء. وقال العلماء: يُحشر العبدُ غداً وله من الأعضاء ما كان له يومَ وُلد فمن قُطع منه عضو يردّ في القيامة عليه. وهذا معنى قوله: «غُرْلاً» أي غير مختونين، أي يردّ عليهم ما قُطع منه عند الختان. قوله تعالى: { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ } أي أعطيناكم وملّكنَاكم. والخَوَل: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم. { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أي خلفكم. { وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ } أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء ـ يريد الأصنام ـ أي شركائي. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قرأ نافع والكسائِيّ وحَفْص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلُكم بينكم. ودلّ على حذف الوصل قوله «وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ». فدلّ هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم فحُسن إضمار الوصل بعد «تقطّع» لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ٱبن مسعود ما يدلّ على النصب فيه «لقد تقطّع ما بينكم». وهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك ذكرت المتقطّع وهو «ما». كأنه قال: لقد تقطّع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطّع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون «بَيْنُكُمْ» بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسنِد الفعل إليه فرُفع. ويقوّي جعل «بين» ٱسماً من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى:وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت: 5] وهَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [الكهف: 78]. ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفاً منصوباً وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فٱقرأ بأيّهما شئت. { وَضَلَّ عَنكُم } أي ذهب. { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي تكذّبون به في الدنيا رُوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. " ورُوي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» فقالت: يا رسول الله، وَاسَوْءتاهٰ إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً، ينظر بعضهم إلى سَوْءة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل ٱمرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شُغل بعضهم عن بعض» " وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.