الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ }

قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا } بالتكذيب والردّ والاستهزاء { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } والخطاب مجرّد للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل: المراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك فأُمِر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا ٱستهزءوا وخاضوا ليتأدّبوا بذلك ويدَعُوا الخوض والاستهزاء. والخَوْض أصله في الماء، ثم استعمل بعدُ في غَمَرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيهاً بغَمَرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شيء خُضْتَه فقد خلطته ومنه خاض الماءَ بالعسل خلطه. فأدّب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية لأنه كان يقعد إلى قوم من المشرِكينَ يَعِظهم ويدعوهم فيستهزءون بالقرآن فأمره الله أن يُعرض عنهم إعراضَ مُنْكِر. ودلّ بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكَراً وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يُعرض عنه إعراض منكر ولا يُقبل عليه. وروى شِبْل عن ٱبن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: «وَإِذَا رَأْيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا» قال: هم الذين يستهزءون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلاّ أن ينسى فإذا ذَكَر قام. وروى وَرْقَاء عن ٱبن أبي نَجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق. الثانية: في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حُجَجٌ وأتباعَهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوّبوا آراءهم تَقِيّة. وذكر الطبريّ عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. قال ابن العربيّ: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحِلّ. قال ابن خُوَيْزَمَنْدَاد: من خاض في آيات الله تُركت مجالسته وهُجر، مؤمناً كان أو كافراً. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخولَ إلى أرض العدوّ ودخولَ كنائسهم والبِيعَ، ومجالسةَ الكفار وأهلِ البِدَع، وألاّ تُعتقد مودّتهم ولا يُسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البِدع لأبي عِمران النَّخَعِيّ: اسمع مني كلمة فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السِّختِيانيّ. وقال الفُضيل بن عِيَاض: من أحبّ صاحبَ بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوّج كريمته من مُبْتدِع فقد قطع رَحِمَها، ومن جلس مع صاحب بِدْعة لم يُعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مُبغِض لصاحب بِدْعة رجَوْتُ أن يغفر الله له.

السابقالتالي
2