الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ }

قوله تعالىٰ: { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي بالبينة لأنها في معنى البيان كما قال:وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [النساء: 8] على ما بيناه هناك. وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره. وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مُصْعَب بن عبد الله بن الزُّبير لنفسه، وكان شاعراً محسناً رضي الله عنه:
أأقعدُ بعدما رجفتْ عظامي   وكان الموتُ أقربَ ما يَلينِي
أُجادلُ كلَّ مُعترِضٍ خَصيمِ   وأجعل دِينَه غَرَضاً لِدينِي
فأتركُ ما علمتُ لرأي غيرِي   وليس الرأيُ كالعلم اليقينِ
وما أنا والخصومةُ وهي شيءٌ   يُصرَّفُ في الشَّمالِ وفي اليمين
وقد سُنَّت لنا سُنَنٌ قِوام   يَلُحْنَ بكلِّ فَجٍّ أو وَجِين
وكان الحقُّ ليس به خفاءٌ   أغَرَّ كَغُرَّة الفَلَقِ المبينِ
وما عِوضٌ لنا مِنهاجُ جَهْمٍ   بمنهاج ابنِ آمنةَ الأمينِ
فأمّا ما علمتُ فقد كَفَانِي   وأمّا ما جهلتُ فجنِّبونِي
قوله تعالىٰ: { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي العذاب فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله ٱستهزاء نحو قولهم:أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [الإسراء: 92]ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32]. وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي ما الحكم إلاَّ لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } أي يقص القَصَص الحق وبه ٱستدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس قال ابن عباس قال الله عزّ وجل:نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3]. والباقون «يَقْضِ الحَقَّ» بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ عليّ ـ رضي الله عنه ـ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِي وسعيد بن المسيّب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء ودل على ذلك أن بعده { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَاصِلِينَ } والفصل لا يكون إلاَّ قضاء دون قَصص، ويُقوِّي ذلك قوله قبله: { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } ويقوّي ذلك أيضاً قراءة ابن مسعود «إنِ الْحُكْمُ إلاّ لِلَّهِ يَقْضِي بِالْحَقِّ» فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس هذا لا يلزم لأن معنى «يقضي» يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: «يقضي» القضاء الحق. قال مكيّ: وقراءة الصاد أحب إليّ لاتفاق الحرميَّيْن وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم لأن مثل هذه الباء تحذف كثيراً.