الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } * { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله تعالىٰ: { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } «لولا» تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى هَلاَّ وهذا عِتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتَضرَّعوا حين نزول العذاب. ويجوز أن يكونوا تضرّعوا تضرّع من لم يُخلص، أو تَضرعوا حين لاَبَسهم العذابُ، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدعاء مأمور به حال الرَّخاء والشّدّة قال الله تعالىٰ:ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] وقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } أي دعائيسَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60] وهذا وعيد شديد. { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي صَلُبت وغَلُظت وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية. { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها. قوله تعالىٰ: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } يُقال: لِم ذمّوا على النسيان وليس من فعلهم؟ فالجواب ـ أنّ «نَسُوا» بمعنى تركوا ما ذكّروا به، عن ٱبن عباس وٱبن جُرَيْج، وهو قول أبي عليّ وذلك لأن التارك للشيء إعراضاً عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسِي، كما يُقال: تركه. في النِّسْي. جواب آخر ـ وهو أنهم تعرّضوا للنّسيان فجاز الذمّ لذلك كما جاز الذمّ على التعرّض لسخط الله عزّ وجلّ وعقابه. ومعنى { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك. والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقاً عنهم. { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ } معناه بَطَروا وأشِروا وأعجِبوا وظنّوا أن ذلك العطاء لا يَبِيد، وأنه دال على رضاء الله عزّ وجلّ عنهم { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } أي ٱستأصلناهم وسطونا بهم. و «بَغْتَةً» معناه فجأة، وهي الأخذ على غِرّة ومن غير تقدّم أمارة فإذا أخذ الإنسان وهو غارٌّ غافل فقد أُخِذ بغتةً، وَأَنْكَىٰ شيءٍ ما يَفْجأُ من البَغْت. وقد قيل: إن التذكير الذي سلف ـ فأعرضوا عنه ـ قام مقام الأمارة. والله أعلم. و «بَغْتَةً» مصدر في موضع الحال لا يُقاس عليه عند سيبويه كما تقدّم فكان ذلك ٱستدراجاً من الله تعالىٰ كما قال:وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم: 45] نعوذ بالله من سخطه ومكره. قال بعض العلماء: رحم الله عبداً تدبر هذه الآية { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً }. وقال محمد بن النَّضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الله تعالىٰ يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك ٱستدراج منه لهم " ثم تلا: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } الآية كلها. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلاَّ كان قد نقص عمله، وعجز رأيه.

السابقالتالي
2