الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

قوله تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } تقدّم معنى الدابة والقول فيه في «البقرة» وأصله الصفة من دَبّ يَدِبّ فهو دابّ إذا مشى مشياً فيه تَقَارُب خَطْو. { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } بخفض «طائرٍ» عطفاً على اللفظ. وقرأ الحسن وعبدالله بن أبي إسحاق «وَلاَ طَائِرٌ» بالرفع عطفاً على الموضع، و «مِن» زائدة التقدير: وما دابةٌ. «بِجَنَاحَيْهِ» تأكيد وإزالة للإبهام فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طِرْ في حاجتي أي أَسرعْ فذَكَر «بجناحيه» ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن ٱعتدال جَسَد الطائر بين الجناحين يعِينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل فأعلمنا أن الطيران بالجناحين ومَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النحل: 79]. والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي ومنه جَنَحت السفينةُ إذا مالت إلى ناحية ٱلأرض لاصقة بها فوقفت. وطائر ٱلإنسان عمله وفي التنزيلوَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [الإسراء: 13]. { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتَكفّل بأرزاقهم، وعدَلَ عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و«دابة» تقع على جميع ما دبّ وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة والمعنى: وما من دابة ولا طائِر إلا وهو يسبِّح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هُريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غداً ويقتص للجّماء من القَرْنَاء ثم يقول الله لها: كوني تراباً. وهذا ٱختيار الزجاج فإنه قال: { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول ٱلأول أيضاً. وقال سُفيان بن عُيْينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يَشْرَه كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخَطَّابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حِذْرك. وقال مجاهد في قوله عز وجل: { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } قال: أصناف لهن أسماء تُعرف بها كما تُعرَفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تُحشر وتنعم في الجنة، وتعوّض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم والصحيح { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضاً حسن فإنه تشبيه واقع في الوجود. قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث.

السابقالتالي
2